قصة قصيرة بعنوان سخرية جادة للكاتبة شمس عنتر
ربما أطلق في المستقبل على عصرنا هذا اسم زمن السخرية....
إريك ماريا ريمارك
كان يسرد لها
بعض من ذكرياته وكأنه يتحدث عن شخص آخر،
شابت محياه ابتسامة صفراء حين ذكر الجرم" الإخلال
بهيبة الدولة" !والذي
كان يغيظه
أنه كان على
مقاعد دراسة
الحقوق وممنوع عليه طلب حقوقه ، فقد كان
مصيره ثماني سنوات من السجن حين تحدث عن
بعض حقوقه.
يتعجب من نفسه و يشكر الله ومن ثم عضلاته القوية لأنها
كانت عونا له في تحمل قسوة فقدان الحرية.
ثم تحول إلى جرذ يقضم الكتب قراءة خلال
السنوات الأخيرة له في السجن حين استقر الحال وانتهى التعذيب وعند انتهاء مدة سجنه
كانت الخزينة الفكرية لديه قد امتلأت عن
آخرها ،
وهذا ما جعله في صف أشهر
الكتاب .
التفت زوجته إليه و قد تنبهت لتأخر ابنهما خالد، فهو في الآونة الأخيرة مضطرب الأحوال حتى إنه لم يعد يذهب إلى الجامعة, وفجأة دخل خالد كالسهم مندفعا وهو يضرب الباب الذي انفتح على مصراعيه وكأن وحشا يلاحقه وقد اصفر وجهه، وتقطعت أنفاسه، وما كانت سوى لحظات حين هجمت على الباب جماعة ملثمة وانقضت على خالد وجرجرته إلى الخارج.
ولم تنفع كل توسلات الام والأب سوى أنهما سمعا أن التهمة كتابة عبارات مسيئة للنظام على الجدران.
واصبح خالد كعصفور داخل قفص وطارت سيارة الفان السوداء إلى
جهة غير
معلومة
.
خالد صامت
لا ينبس
ببنت شفة،
ولا يرفع
نظره عن
الأرض ، فهو يعلم كيف ذَل والدُه
نفسه ِلكثير من
الناس حتى
أطلق سراحه
بعد أن
عذبوه وأهانوه
.
كل شيء فيه يبكي إلا عينيه، فقد كانتا غائرتين، شفتاه تتحركان دون أن يتكلم وكأنه فقد لسانه ، يغلي وكأن دخانا يخرج من عينيه، حتى روحه انكمشت، بقي معلقا في مشنقة الفراغ ، تلك الإهانات ترن في أذنه كأنها آلة تسجيل لا تكف عن التكرار، يتآكل من الداخل لقد تسبب لأهله بالعذاب والاهانة. يتساءل هل أخطأت عندما فضحت جرائمهم ؟!!
إن سنحت
له الفرصة لكرر نفس العمل لن يتراجع عن نشر الحقيقة، ولتكن
النتائج كيفما
شاءت . هكذا
حدث نفسه.
في الليل
تمدد كلاّ
على
فراشه، لكن
لم تغمض
لهم جفون
... كان ياسين يفكر بحجم عذاباته يقارنها بعذابات ،كانديد فولتير ،و دون تيشوت سرفانتس ،و جان فالجان هوغو ،ومسخ
كافكا ،وابله دستويفسكي ،وهو ،ياسين الكردي . يا لنا من مهمشين! .
لم ينم تلك الليلة إلا بعد أن انتهى من ترتيب خطة الهروب .
في الضحى كانت سيارة أجرة تنتظرهم.
خرجوا من الحسكة، ولم يأخذوا إلا اليسير معهم، الباقي تركه بعهدة عمو
جدوع ليبيعها
مع البيت.
قرأ الخوف والشك في عيون ليلى
لكنه طمأنها بأن هؤلاء الملثمين لا يمثلون العرب .وهكذا قاموا باقتلاع أنفسهم من بيوتهم!
صمت قاتل
يلفهم وهم في الطريق
إلى عامودا
.عند حاجز
" جاغر " طُلب منهم أن تقف السيارة ، حدق
العنصر في
وجه خالد ، ثم
طلب منه
أن يترجل
.
هو مؤجل
دراسيا قال ياسين:
عمي هذا
ليس من
شأني يجب
أن يأتي
معي
.. رد العنصر.
حاولت الأم أن تشرح لهم بأنه مؤجل،
وإنه مريض،
وإنه كان مخطوفا وقد
عذبوه الملثمون ترجتهم وهي تبكي أن يتركوه.
لكن العنصر وضعه
في سيارتهم وانطلق
بها.
جمد ياسين
في مكانه فقلبه لا يكاد يبرد حتى يتلقى جمرة جديدة ، بكت
ليلى بحرقة .
اكملا الطريق وقد تبدلت
هيئتهما وكأنهما
كبرا عشرات السنين
خلال ساعات.
ليلى وهي
في عقدها
الرابع بدت
كعجوز غائرة
العينين جافة
الشفتين، شاردة
الفكر، وكأنها
خارجة لتوها
من مصح
للأمراض العقلية،
تمشي دون
وعي
.
ياسين لا
يعلم أين
ضاعت نظارته،
فقد بدا
كأنه أعمى
يتلمس الطريق
بحذر مثل
شيخ هرم
.
راجع مركز
التجنيد وشرح لهم
وضع ابنه،
وبعد تحقيق
وبحث ووساطات
علم أنه
مازال بالبلدة
، بعد
عدة محاولات
تواصل مع
ضابط منهم
وساعده لرؤيته،
هناك تعرف
ياسين على
بعض الحراس
ورشاهم بالمال،
ورتب أموره
الأخرى.
خلال أسبوع وصله مبلغ من جاره جدوع الذي باع البيت والعفش وتجهز للخروج هذه الليلة إلى حدود تركيا مع المهرب.
كان قد نظم كل شيء عند منتصف الليل أحضر المهرب السيارة، وانطلقت بهما إلى الحدود حيث البرد ينخر العظام .
ينظر إلى
الساعة بقلق
شديد وسط احتجاج الأم بعدم التحرك دون
خالد .
كانا يرتجفان كأوراق الخريف اليابسة ،
أريد أبني لن أتحرك دونه .
ياسين يطمئنها فهو يعلم كم دفع لهم. تلك هي الإشارة انه خالد!
ضمت ليلى ابنها الذي انقلب إلى نصفه إنها الرابعة صباحا وهم يتكومون على بعضهم من شدة البرد بالقرب من الأسلاك الشائكة.
صرخ
المهرب: استعدوا..
عندما أعطيكم
الإشارة تنطلقون
.
طال الانتظار
وهم يرتعشون،
بدت الثواني
ثقيلة، شعروا
كأنهم هنا
منذ سنة،
الظلمة حالكة
والطريق غير
مرئي، وأخيرا
لمحوا الإشارة،
وأسرعوا يركضون
باتجاه تركية
، واصلوا الركض
وفجأة ارتفع أزيز الرصاص
وانقلب المكان لساحة حرب. سقط
ياسين، سقط
خالد، تبعتهم
ليلى
..
كان بخار
الدم الحار
يختلط بالضباب
الذي خيم
على المكان
.
ليست هناك تعليقات: