النبي ابراهيم الخليل- الموطن- الأصل. نايف جبيرو
رغم مرور أكثر من
/3800/ عام على التاريخ المفترض لحياة النبي ابراهيم الخليل, الأب الروحي للديانات
الرئيسية الثلاث, اليهودية, والمسيحية, والإسلامية, لا تزال هذه الشخصية تكتنفها الكثير
من الغموض, سواءً من حيث هل هي شخصية تاريخية حقيقية.؟ أو من حيث الأصل الحقيقي
والموطن الأول والأساسي الذي خرج منها, وقد تناول المفكر المصري والدكتور في فلسفة
الأديان سيّد محمود القمني هذه الشخصية في
كتابه النبي ابراهيم والتاريخ المجهول, ودراستها تاريخياً, هل هي شخصية حقيقية, أم
شخصية أسطورية, وبالاستناد الى الوقائع التاريخية, ومكتشفات علماء الآثار, لغاية
تتعلق بمدى أحقية اليهود العبريين بأرض كنعان من عدمها, لكن نحن هنا ما يهمنا من
هذه الدراسة ليس ما ذهب إليه الكاتب رغم اهميتها, بل البحث عن مسألة أخرى
تحدث الكاتب عنها بإسهاب, عن موطن ابراهيم الخليل, وعن عشيرته وعن المكان الأول الذي
خرج منه, متجهاً نحو بلاد كنعان, لغايةٍ تدخل في خدمة تحقيق هدفه الذي سعى الوصول
اليها, وبالاستناد الى ما ورد في كتاب التوراة من شواهد وأدلة لا تقبل الشك.
نحن في هذه الدراسة
سنقف عند أهم النقاط التي نعتبرها ذات اهمية بالغة بالنسبة لشخصية وتاريخ ابراهيم الخليل, ليس من
حيث العقيدة والايمان, وانما الاصل والانتماء, وموطنه الاصلي, مع الإشارة الى بعض
الجوانب الأخرى وعلى الشكل الآتي:
أولاً: يشير الكاتب في بداية بحثه الى بعض الاشكاليات التي تكشف
الغموض حول شخصية ابراهيم الخليل, وذلك من خلال اشارته الى بعض المواضع التي تختلف
فيها المعلومات الواردة في التوراة, عن تلك الواردة في التراث الاسلامي, وما ورد
منها في القرآن الكريم, عن شخصية ابراهيم الخليل, حيث يشير الكاتب, أن هناك تفاصيل
عديدة وردت في القرآن, حول شخصية ابراهيم الخليل, ولم ترد في التوراة, ومنها
مثلاً: أن التوراة لم تذكر تكسير النبي ابراهيم لأصنام قومه, أو قصة إلقائه في
النار, أو خلافه مع أبيه, حول صادق العقيدة, أو أن ابراهيم كان يأبى أن يجثوا
للنار, أو حواره مع الملك المذكور في التراث الاسلامي باسم (نمرود), مع العلم أنه ليس
بين ملوك الكلدانيين نماردة, ولا في اور نماردة, ولا في تاريخ ملوك الرافدين نمرود
واحد. إضافة الى الاختلاف في اسم والد
ابراهيم, الذي يسميه القرآن باسم آزر, بينما يسميه التوراة بـ تارح. في الوقت الذي
يوجد تفاصيل هائلة وردت في التوراة, ولم يرد لها ذكر في القرآن, أو في التراث
الاسلامي. لكن الكاتب يشير في موضع آخر أن التوراة والتراث الاسلامي يتفقان على
قصة خروجه من بلاد الرافدين (أور الكلدانيين), ورحلته الى بلاد كنعان, وأنه زار
مصر, وكان أساساً للثروة الطائلة, التي تمتعت بها ذريته فيما بعد. لكن الكاتب يذكر
في هذا الصدد أنه لم يتم العثور الى الآن على أي دليل آثاري, سواءً كتابة أو نقشاً
يقبل التفسير, او التأويل, يمكن أن يشير الى النبي ابراهيم, وقصته سواءً في آثار
بلاد الرافدين, أو آثار وادي النيل, على كثرة ما اكتشف فيهما من تفاصيل, ووثائق.
ثانياً: يشير الكاتب, أن هناك الكثير من المفكرين, يشيرون بخصوص
النبي ابراهيم, الى اسطورةٍ باسم (براما), التي كانت واسعة الانتشار قبل ظهور
العبريين, وعرفت تلك الاسطورة في بلاد ايران والهند وما حولها, وأنها أصل عقيدة
(براهما) الهندية, وأن العبريين بدورهم قد تبنوا هذه الاسطورة, وحولوها الى شخصية
انسانية, واحتسبوها (براما) جدهم البعيد, تأسيساً على منهج التدين القديم القائم
على تقديس الاسلاف.
ثالثاً: أما حول موطن ابراهيم الخليل (عليه السلام) وما يثار حولها
من تساؤلات فيذكر الكاتب أن أول ذكر للنبي ابراهيم الخليل في التوراة, يأتي في
سياق حديثها عن هجرةٍ قادها أبوه تارح ابن ناحور, مع أفراد عائلته, من موطنهم
الأصلي حسب (رواية التوراة) فتقول:
(وأخذ تارح إبرام ابنه ولوطاً ابن هاران ابن اخيه وساراي
كنته امرأة إبرام ابنه فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا الى أرض كنعان فأتوا
إلى حاران وأقاموا هناك) سفر التكوين 11: 31-33.
التساؤل الأول: يذكر التوراة أن تارح أبو ابراهيم قد قاد رحلة
مع افراد عائلته, من اور الكلدانيين, ليذهبوا الى أرض كنعان, فأتوا الى حاران
وأقاموا هناك.؟ وبالعودة الى التاريخ, يظهر أن أغلب المؤرخين يرجعون تاريخ ظهور
ابراهيم الخليل الى حوالي عام 1800ق.م, بينما تاريخ دولة الكلدانيين, هي ما بين
عام 625-538 ق.م, أي أن هناك ما يفصل تاريخ ابراهيم الخليل, عن تاريخ الكلدانيين
اكثر من الف عام, وهذا ما يلقي الشكوك ان المقصود بـ أور الكلدانيين الواردة في
التوراة هي مكان آخر, وليس بـ أور الواقعة في الجزء الجنوبي من العراق القديم.
التساؤل الثاني: إذا كان المقصود بـ أور الكلدانيين هي أور
الواقعة على الشاطئ الغربي من نهر الفرات, أي الجزء الجنوبي من العراق القديم,
وكان هدف الرحلة الذهاب الى ارض كنعان, فلماذا اتجهت الرحلة الى اقصى الشمال,
لتنتهي بوضع رحالها في حاران, التي
استغرقت اكثر من خمسة عشر سنة, بينما أرض كنعان التي كانت الهدف الأخير للرحلة,
تقع الى الغرب من أور, وتفصلهما بادية الشام الاردنية, والتي كانت لا تستغرق
المسير اليها على ظهور الحيوانات أكثر من عشرين يوماً.
التساؤل الثالث: إذاً ما المقصود بـ أور الكلدانيين.! بعد أن
تبيّن الفارق الزمني- كما بيناه سابقاً- بين تاريخ ابراهيم (عليه السلام) وتاريخ
الكلدانيين, فأيّ (أور) هذه التي انطلقت منها الرحلة الابراهيمية.؟ خاصةً وبعد أن
تبين أن اتجاه الرحلة نحو الشمال, حيث اتوا الى حاران, كانت تبعدهم عن ارض كنعان,
بدل أن تقرّبهم منها. وهنا يسترسل الكاتب سيّد محمود القمني[1]
في شرح هذه المسألة بالقول:
من المعلوم لدى الباحثين أن اللفظة (أورUR), تدل على معنى المدينة بوجه عام. فإضافة الى (أور) الرافدية التي
نسبتها التوراة للكلدانيين, واكتشف تاريخها العريق حديثاً, في أطلالٍ قرب مصب
الفرات في الخليج العربي, هناك (أور) أخرى متعددة, فلدينا (أورشليم) و(أوركومينوس)
باليونان, و(أوروك) بالعراق, و(أور-أرتو) على جبال أرمينيا, قرب بحيرة وان,
والمعروفة باسم (آرارات). والتوراة تقول: أن كارثة الطوفان قد أدت إلى انتقال قومٍ
من موضع الكارثة, بسفينة كبيرة إلى جبال (آرارات), حيث ألقت السفينة مراسيها, في
الوقت الذي تؤكد التوراة أن ابراهيم من نسل أرفكشاد بن سام بن نوح, وحيث كانت السفينة هي سفينة نوح عليه السلام.
ثم يضيف الكاتب. مما أثار لدينا التساؤل: هل قصد التوراة
بـ(أور) مدينة أخرى.؟ تحمل نفس الاسم, ربما كانت تقع في منطقة الدويلات الآرامية
(الحور), قرب (أور) التي ألقت السفينة النوحية مراسيها, أو هي (أور-أرتو) ذاتها.
وهنا لنا تعقيب وعدم اتفاقٍ مع الكاتب لمقولة (منطقة
الدويلات الآرامية - الحور). فالحوريون لم يكونوا من الآراميين, كما لم تكن
اللغة الحورية من اللغات السامية, بل كانت لغتهم قريبة من لغة الأورارتو, وهم من
الشعوب الهندو اوربية (الآرية), ويرى البعض الآخر انهم ينتمون الى السوباريين
(السوبارتو اجداد الكرد), وقد جاؤوا حسب ما يرى العلماء, من المرتفعات الواقعة بين
بحيرة أورمية وجبال زاغروس (موطن أجداد الكرد), في منتصف الالف الثالث قبل
الميلاد, بأعداد قليلة الى شمال بلاد موزوبوتاميا, شرقي نهر دجلة, ثم زادت مساحة
الأراضي التي شغلوها, في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد, وأصبح لهم كيان سياسي -
وهو الزمن القريب من زمن ظهور النبي ابراهيم الخليل- في شمال بلاد موزوبوتاميا, وأسسوا المملكة
الحورية الميتانية سنة 1530ق.م, وكانت عاصمتهم واشوكاني (سري كانيي- رأس العين
الحالية), كما عُرِف ان الحوريين شأنهم شأن الكاشيين (أجداد الكرد) والهكسوس
توليهم تربية الخيول واستخدامها في الحروب, مما يدل على انتمائهم الى مناطق جبال
طوروس زاغروس موطن اجداد الكرد القدماء.
والآن نعود لاستكمال مقولة الكاتب حول قصد التوراة من كلمة
(أور), حيث يقول: أن المشكلة هي في ترجمة التوراة, من اللغة العبرية الى اللغة
العربية, حيث تأكد أنه ليس في الأصل العبري أية (أور كلدانيين), إنما كانت هناك
(أوركسديم), وفي البحث عن معنى (أوركسديم) تبيّن:[2]
أولاً: أن الفاء تختلط بالباء وتتبادل معها في اللسان القديم,
وإذا كان حرف (ش) يتبادل مع حرف (س), في اللغات السامية, كما هو معروف فإن
(أرفكشد), أحد أجداد ابراهيم, ينطق أيضاً نطقاً صحيحاً (أربكسد), والمنطقة الواقعة
بين جبال آرارات وبلاد الحوريين, كانت تعرف باسم (أرابخيتيس), وتعرف حاليا باسم
(الَبَك), ولسان اهل هذه المنطقة هندو أوربي, فإنه بحذف التصريف الاسمي (الياء
والسين الأخيرة), في كلمة (ارابخيتيس), تصبح (أرابخسد), وبتبادل حرف (ك) مع حرف
(خ), في اللسانين السامي والهندو أوروبي, فإن (أرابخسد) تصبح (أربكسد).
ثانياً: المعروف عن الخاصية التوراتية تسمية البلدان بأسماء
الأبطال, وهنا فإن اسم منطقة (أبكسد) يلتقي تماماً مع بطل من ابطال التوراة, وهو
(أربكسد) أو (أرفخشد), جد النبي ابراهيم, وبالتالي فإن منطقة (ربكسد), هي المعنية
في التوراة بـ(أور الكلدانيين), التي هي في الأصل العبري (أور كسديم), و(كسديم)
جمع عبري للمفرد (كسد), وهي بالتالي (أور كسد).
ثالثاً: -وهذه أهم نقطة أشار إليها الكاتب- حيث يقول: أن أهم ما
يؤيد هذا الحفر اللغوي, هو التسمية التي أطلقها أهل الرافدين القديم, على سكان
المناطق الشمالية, والذين أسسوا دولة بابل الثالثة, هؤلاء هم من تشير اليهم النصوص
الرافدية القديمة, باسم (الكاسيين), أو الـ(كاسي) ولو جمعنا المفرد (كاسي),
باللسان العبري فإنه يصبح (كسديم).
رابعاً: أن التوراة بذاتها تشير الى موطن النبي ابراهيم
الأصلي, من خلال تأكيدها أن النبي ابراهيم يعود بأرومته الى جده البعيد سام بن
نوح, وكان لسام أخوان هما (حام) و (يافث), وتحكي التوراة أن نوح لعن النسل
الكنعاني, من أبناء حام, وبارك سام ونسله, بالقول:(مبارك الرب إله سام ليفتح الله
ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم:9:18-27) - ومعروف حسب التوراة,
موطن نوح وسام ويافث في جبل آرارات, عندما ارست السفينة مراسيها, بعد الطوفان -كما
بيناها سابقاً- او منطقة جبل الجودي حسب الرواية الاسلامية لطوفان النبي نوح- وحسب
التقسيم التوراتي للاجناس (التكوين:10) فإن سام هو ابو كل بني عابر, وبني آرام, وبني أرفكشاد, والعجيب أن كاتب هذا
الجزء من التوراة كانت لديه معلومة, تقول: أن يافث ونسله كانوا يساكنون سام ونسله
(ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام). ثم يضيف الكاتب, معلومة تاريخية خاطئة
ولنا تعليق على ذلك حيث يقول: وحسب التقسيم التوراتي للاجناس فإن يافث هو أبو
الترك.؟ والصقالبة القدماء, وهم ليسوا شيئاً سوى سكان بلاد الحور الارمنية, وما
جاورها.
ثم يختم الكاتب بالنتيجة عندما يقول: أفلا يعني ان مساكن
سام التي سكنها يافث, كانت في المنطقة التي حددناها كموطن أول للعشيرة
الابراهيمية؟ وبمعنى آخر أن الموطن الاصلي لإبراهيم وعشيرته لا علاقة لها بأور
الكلدانيين, أو أور الواقعة بجنوب بلاد الرافدين.
أما تعقيبنا على ما ورد من معلومة أعتبرها خاطئة, ومنافية
للحقيقة التاريخية, حين أشار الكاتب واستناداً على بعض مصادره, خاصة منها ذو
النكهة الدينية, حين قال أن يافث هو ابو الترك, والصقالبة القدماء, لغاية الوصول
الى نتيجة تأكيد الموطن الأصلي لإبراهيم الخليل, في اشارة لمنطقة جبال آرارات,
وبذلك جاء الكلام منافياً للموطن الأصلي لشعوب وأقوام, عاشت في تلك المنطقة لآلاف
السنين, قبل مجيء الاتراك, كالكاسيين والحوريين, والسوباريين, والجوتيين, واللولو,
والميديين, اجداد الكرد وجعلها موطناً لشعوب وأقوام, لا صلة لهم بهذه الارض, على
الأقل في زمن ابراهيم الخليل, وعلاقتهم بهذه الأرض جاءت في اوقات متأخرة جداً عن
تاريخ ابراهيم الخليل, ولإثبات ذلك لا بد لنا من إيراد الأدلة الموثقة, على عدم
صحة المعلومة التي اوردها الكاتب, حول الترك والصقالبة, والمنطقة التي اشار اليها.
فمن حيث موطن الترك الأصلي, يمكننا هنا اقتباس الآتي مما ورد في الموسوعة
اليهودية, طبعة 1903 الموجودة في new York public library.
"الخزر
شعب خليط, تركي, فنلندي, مغولي, غير معروف الاصل عرقياً وتاريخياً, وجد وسط آسيا,
ثم اجتاح شرقي اوروبا بحروب دموية همجية, وأقاموا مملكة الخزر وعاصمتها إتيل في
اوكرانيا, وكانوا يعبدون قضيب الرجل ثم تحولوا الى اليهودية"
وحول هذا
الموضوع أيضاً, وحقيقة موطن الأتراك, جاء في بحثٍ لمركز فيريل للدراسات – برلين,
ألمانيا, حول تاريخ الأتراك الحقيقي, حيث جاء فيها أن الأتراك مجموعة قبائل, جاءت
من غربي الصين, وأسست مملكة الخزر, وهي مملكة أقيمت بين البحر الأسود وبحر قزوين
حوالي سنة /600/ للميلاد, وامتدت لاحقاً لتصل الى كييف, وجبال الأورال, وجاءت
تسمية الخزر من (قاز) وتعني المتجول ويقابلها بالعربية البدو الرحل, وكان الخزر
وثنيون يعبدون قضيب الرجل, ويمارسون شعائر دينية خاصة, وهي ديانة انتشرت في بلاد
التيبت وغربي الصين, واعتنق الاتراك الخزر اليهودية في عهد ملكهم خاكان بولان سنة
/720/ ميلادي, وجعلوها الديانة الرسمية لمملكتهم سنة /740/ ميلادي, ونتيجة حروب المسلمين
ضدهم من الجنوب, والروس والبيزنطيين من الشمال والغرب, انهارت مملكتهم
سنة/998/ميلادي, والتجأ ملكهم وأغنياءهم الى بلاد البلقان وأوربا, واعتنق الأتراك
الباقون الاسلام خوفاً على حياتهم, ودخلوا في خدمة ملوك المسلمين, خاصة في عهد
الخلافة العباسية, ومنهم كان جد الاتراك الحاليين, سلجوق بن دقاق, كل هذا يوضّح
شيئاً هاماً ألا وهي إذا كان بداية مجيء الأتراك واحتلالهم للمناطق التي هم فيها
الآن هي سنة /600/ للميلاد, وما بعدها, بينما يعود تاريخ ابراهيم الخليل, الى سنة
/1800/ قبل الميلاد, أي في عهد الحوريين وممالكهم فكيف يقال أن موطن ابراهيم
الخليل الاصلي, هو موطن الترك, وكيف ينسب الحوريين الى الترك, من قبل الكاتب أو
حتى من قبل التوراة, أو بعض المؤرخين المسلمين أمثال ابن خلدون.
أما
بالنسبة للصقالبة, التي أشار اليها الكاتب, وجعل موطن ابراهيم الخليل الاصلي في
ارض الترك والصقالبة (وهي منطقة جبال آرارات).
ولتوضيح
هذه المسألة يمكن طرح السؤال الآتي من هم الصقالبة.؟ وأين يقع موطنهم, ومن خلالها
تتكون الاجابة, التي تؤكد المعلومة الخاطئة التي اوردها الكاتب.
فالصقالبة
هو اسمٌ أطلق على الرقيق من اصل روسي, وهناك صقالبة روس وصقالبة بلغار. وقال أبو
منصور أن الصقالبة هم شعوب تعيش بالقرب من بلاد الخزر في اعالي جبال الروم. كما
ذكر آخرون أن الصقالبة هم من مناطق تقع بين القسطنطينية وبلغاريا.
وللصقالبة ثلاثة فروع رئيسية هي:
1- صقالبة الغرب ويشمل البولنديين والسلوفاكيين والتشيكيين بالإضافة الى بعض
العناصر في شرق ألمانيا.
2- صقالبة الشرق, ويشتمل على الروس الكبار, والروس البيض (البروسيين) والروس
الصغار (الأوكرانيين).
3- صقالبة الجنوب, ويشتمل على البلغاريين, والمقدونيين, والصربيين, والكرواتيين,
والسلوفينيين.
وهنا السؤال هل كان احد الشعوب المذكورة من الصقالبة من سكان منطقة جبال
آرارات التي ارست عندها سفينة نوح مراسيها حتى يكون موطنهم موطن ابراهيم الخليل
الاصلي الذي هو احد احفاد نوح عليه السلام حسب الرواية التوراتية.
والآن نعود للبحث عن الموطن الأصلي للعشيرة الابراهيمية.
لقد ذكرنا سابقاً, وكما أثبتها الكاتب سيّد محمود القمني,
في مؤلفه أن أول ذكر للنبي ابراهيم (عليه السلام), في التوراة جاء في سياق حديثها
عن هجرةٍ قادها أبوه (تارح بن ناحور), مع أفراد عائلته من موطنهم الأصلي, فتقول:
(وأخذ تارح ابرام ابنه, ولوطاً ابن هاران ابن ابنه, وساراي كنته, امرأة ابرام ابنه,
فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان, فأتوا حاران وأقاموا هناك).
وتم فيما سبق أن أور الكلدانيين هي ليست مدينة أور العراقية القديمة الواقعة
في جنوب العراق, كما تم تبيان أن تلك الـ(أور) هي (اور كسديم) أو (أور الكاسيين)
الواقعة في منطقة جبال آرارات الواقعة ضمن أراضي الكاسيين والحوريين جنوب أرمينيا آنذاك موضع رسوّ سفينة نوح (عليه
السلام), حسب الرواية التوراتية, وتأسيساً على ما تم ذكره وإعمالاً لمجموعة
القرائن المذكورة سابقاً, فإنه لم يعد هناك أيّة قرائن عن حاران على أنها تجاور
(أور الكلدانيين), أو (أور) العراقية القديمة, وهكذا يتضح أن العشيرة الابراهيمية,
وافدة الى حاران الحورية من منطقة جبال آرارات جنوب غرب ارمينيا, لكن يمكن طرح
التساؤل التالي: ما الذي دفع بـ تارح ابو ابراهيم وعائلته النزوح من موطنهم,
والتوجه نحو بلاد كنعان, والإقامة في حاران الحورية.؟ وفي الاجابة عن هذا التساؤل,
يبدو أن ثمة ضغطاً هائلاً قد حدث دفع بشعوب هذه المنطقة, (منطقة جبال آرارات)
للخروج في موجات متتابعة من الهجرات, وربما يمثل هذا الضغط في كارثة طبيعية, أو
مجموعة كوارث متتابعة, تفسر الهجرات المتتابعة, التي هبطت على المنطقة, منهم النبي
ابراهيم وقبيلته, الكاسيين, الهكسوس[3].....
وفي هذا الصدد وكتفسير لما حدث توصل العالم البريطاني الدكتور مايكل بايلي, مؤخراً
الى نظرية تقول: أنه من المرجح أن تكون عدة حضارات في انحاء العالم قد تعرضت
للدمار, بسبب الثورات البركانية التي دمرت جزيرة ثيرا في بحر إيجا, واعتمد الدكتور
بايلي في نظريته على نتائج دراسة لعينات من خشب البلوط القديمة, يرجع عهدها الى
وقت الثورة البركانية في القرن السابع عشر قبل الميلاد, (وهو عهد النبي
ابراهيم) حيث لاحظ الدكتور بايلي, أن معدل
نمو أشجار البلوط في ذلك الوقت كان بطيئاً, بسبب ضعف ضوء الشمس, والبرودة الزائدة,
التي نتجت عن تصاعد كميات كبيرة من الغبار في الجو, بعد الانفجار البركاني.
وهذا ما يتطابق مع ما ورد في المصادر التاريخية التي تفيد بأن الحوريين قد
قدموا من منطقة اورمية وجبال زاغروس, في تلك الفترات(فترة البراكين تلك) وأقاموا
ممالك في شمال موزوبوتاميا, وربما الامر الذي دفع بالحوريين النزول من تلك
المناطق, نحو منطقة شمال موزوبوتاميا, كانت نفس الاسباب التي دفعت بالعشيرة
الابراهيمية بالنزوح من موطنها, والاقامة في حاران الحورية, ومما يؤكد على أن
ابراهيم (عليه السلام), وحين إقامته في حاران لم يكن يعتبر أنه قد غيّر موطنه
الأصلي, على اعتبار ان منطقة حاران كانت تقع ضمن منطقة السيطرة الحورية التي ينتمي
اليها, والدليل على أن ابراهيم النبي كان يعتبر حاران موطن عشيرته الأصلية, ما جاء
في التوراة من تأكيدات وإشارات.
(فأتوا حاران وأقاموا هناك, ومات تارح في حاران, وقال الرب لابرام, اذهب من
أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك, الى الأرض التي أريك, فأجعلك أمة عظيمة, وأباركك,
وأعظم اسمك, وتكون بركة, فأخذ ابرام ساراي امرأته, ولوطاً ابن أخيه, وكل
مقتنياتهما التي اقتنيا, والنفوس التي امتلكا في حاران, وخرجوا ليذهبوا الى أرض
كنعان) التكوين:11: 31, 12: 1-2.
فالتوراة هنا تخاطب ابراهيم وتشير الى (حاران), دون لبسٍ أو غموض, بأنها (أرضك
وعشيرتك وبيت أبيك), لكن في ذات الوقت فإن التوراة وفي مواضع متعددة, تشير الى
مواطن أخرى للنبي ابراهيم, لكن تلك المَواطِن المتعددة تقع ضمن منطقة حاران, ولا
تبتعد عنها, فبعد أن ترك ابراهيم (حاران) واستوطن (كنعان) غريباً, وأنجب ولده
الثاني اسحق –كان الولد الأول هو اسماعيل من زوجته هاجر- تشير التوراة مرة اخرى
الى موطن ابراهيم, حيث تقول التوراة:
(وشاخ ابراهيم وتقدم في الأيام, وبارك
الرب ابراهيم في كل شيء, وقال ابراهيم لعبده كبير بيته....ضع يدك تحت فخذي
فأستحلفك بالرب اله السماء وإله الأرض, ألّا تأخذ زوجةً لابني من بنات الكنعانيين,
الذين أنا ساكنٌ بينهم, بل الى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجةً لابني اسحق), التكوين:24: 1-4.
أما أين أرض العشيرة الابراهيمية, التي توجه اليها العبد كبير بيت النبي
ابراهيم, ليأتي بزوجة لإسحق؟ فهذا ما توضحه استطراد التوراة من خلال قولها: (إن
العبد ذهب الى أرام النهرين الى مدينة ناحور). تكوين:10:24.
وناحور هو جد ابراهيم أبو تارح أبو
ابراهيم, وبمعنى أن (أرام النهرين) هي موطن الاجداد والعشيرة! ثم نجد في التوراة
اشارات لمواطن أخرى, فهذا اسحق يسير على سنة أبيه, مصرّاً على نقاء الدم العبري؟
وعدم تدنيسه بدم آخر, لذلك يشير التوراة:
(دعا اسحق يعقوب ابنه وباركه وأوصاه,
وقال له لا تأخذ زوجةً من بناة الكنعانيين, قم واذهب الى فدان أرام.... وخذ لنفسك
زوجة من هناك...فخرج يعقوب...وذهب الى حاران؟!), تكوين:27: 10,7,2,1.
والملاحظ في الاسماء الواردة في
التوراة, أرام النهرين, وفدان أرام, وحاران, مناطق قريبة على بعضها وجميعها تقع
شمالي بلاد الشام, وشمال غربي العراق, فما للتوراة إذاً بـ(أور الكلدانيين) في
أقصى الجنوب.
وهنا أود الاسترسال بعض الشيء في مسألة زواج يعقوب, كما أوصاه أبوه اسحق, فيرد
فيما سيتم ذكره تأكيدات إضافية حول (حاران) كموطن أصلي للعشيرة الابراهيمية, فيذكر
التوراة أن الابن البكر لإسحق هو عيسو, وقد درجت العادة وخاصة عند الانبياء مباركة
الابن البكر, ليكون خلفاً له بعد مماته, لكن الذي حدث أن (رفقة) أم يعقوب كانت تحب
يعقوب أكثر من حبها لابنها البكر عيسو, وعندما شاخ اسحق في العمر, وفقد البصر, طلب
من ابنه عيسو أن يحضّر نفسه ويجهز طعاماً لكي يباركه, عندها سمعت (رفقة) حديث اسحق
لابنه عيسو, حيث خرج عيسو بعدها الى البرية ليأتي بصيدٍ لوليمة المباركة, فنادت
رفقة ابنها يعقوب وقالت: سمعت أباك يقول لعيسو أخيك: جئني بصيد وهيئ لي أطعمة فآكل
منها وأباركك أمام الرب قبل موتي, والآن يا ابني اسمع لكلامي وأذهب الى الماشية
وخذ لي منها جديين من خيرة المَعَزِ فأهيئهما أطعمة لأبيك كما يحب ويأكل ليباركك
قبل موته. فقال يعقوب لأمه لكن عيسو أخي رجل أشْعر وأنا رجل أملس, ماذا لو جسّني
أبي فوجدني مخادعاً؟ ألا أجلب على نفسي لعنةً لا بركةً. فقالت له امه ما عليك إلا
أن تسمع لكلامي وتذهب وتجيئني بالجديين. فذهب يعقوب وجاء بهما الى امه, فهيأت
أطعمة على ما يحب أبوه. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي عندها في
البيت, فألبستها يعقوب ابنها الأصغر وكست يديه والجانب الأملس من عنقه بجلد المعز.
وناولت رفقة يعقوب ما هيأته من الاطعمة والخبز, فدخل على ابيه وقال: يا ابي, قال
نعم, من انت يا ابني؟ فقال له يعقوب: أنا عيسو بكرك فعلت كما امرتني, قم اجلس وكلْ
من صيدي وامنحني بركتك. فقال اسحق: تعال لأجسّك يا ابني فأعرف هل انت ابني عيسو أم
لا. فتقدم يعقوب الى اسحق ابيه, فجسّه وقال: الصوت صوت يعقوب, ولكن اليدين يدا
عيسو, ثم قال: تقدّم وقبلني يا ابني فتقدم وقبّله فشم رائحة ثيابه فوجد انها رائحة
ثياب عيسو فباركه. وما أن عاد عيسو من الصيد, وجد أن المباركة قد تمت لأخيه يعقوب,
بمكر ومخادعة, فقال عيسو في نفسه اقتربت أيام الحداد على ابي. فأقتل أخي يعقوب,
وجاء من أخبر رفقة بكلام عيسو, فاستدعت يعقوب وقالت له: أخوك ينوي أن يقتلك, والآن
اسمع لكلامي يابني:
(فقمْ واهرب الى لابان أخي في حاران,
وأقم عنده أياماً قليلةً حتى يهدأ غضب أخيك). التكوين:27: 45,44.
وهنا تأكيد واضح من أم يعقوب (رفقة) أن (حاران) هو موطن
أهلها وعشيرتها, حينما قالت قم واهرب الى خالك اخ امك لابان في حاران حتى يهدأ غضب
أخيك عيسو فتعود بعدها لكي لا افقدك وافقد أخاك عيسو في يوم واحد إنْ أقدم على
قتلك.
وتأتي تتمة القصة التوراتية حين تقول رفقة: لإسحق زوجها,
(سئمت من امرأتي عيسو الحثّيتين, فإن تزوج يعقوب من بنات حثٍّ مثل هاتين أو من
بنات سائر أهل هذه الأرض, فما نفع حياتي؟) التكوين:27: 46.
وقد يسأل سائل؟ هذا هو عيسو وقد تزوج امرأتين من الحثيين,
فما المانع من ان يتزوج يعقوب كأخيه عيسو من امرأة غريبة, والجواب على ذلك هو أن
الحثيين كانوا من الشعوب الهندو اوربية, التي حكمت منطقة حاران وما حولها ردحاً من
الزمن, وسكنوا بآسيا الصغرى وشمال بلاد الشام, وهم من قبائل الاناضول الهندو
الاوربية التي تعرف باسم (ختي) وقد ورد ذكرهم في النصوص المكتوبة السومرية باسم
بلاد (ختي) في بلاد الاناضول واسمتهم التوراة بالحثيين ووفق بعض المصادر فإن
بدايات الدولة الحثية كانت في الالفية الثانية قبل الميلاد (تاريخ ظهور ابراهيم
الخليل), وكانت عاصمتها مدينة (خاتوشا) أي (أرض خاتي), وكانت الامبراطورية الحثية
في اوج ازدهارها في عام /1800ق.م/ تلك الفترة التي انتشرت فيها الممالك الحورية في
منطقة حاران, ومنطقة شمال بلاد الشام, وقد حدثت مصادمات وحروب دموية بين الحثيين
وبين المملكة الحورية الميتانية, كما دخلوا في حروب دموية مع المصريين, وكانت
اهمها معركة قادش الشهيرة عام 1290ق.م قرب مدينة حمص السورية الحالية على ضفاف نهر
العاصي, تلك المعركة التي انتهت باتفاقيةٍ سميت باتفاقية قادش, وهذا السرد البسيط
يظهر أن ابراهيم الخليل ومن بعده اسحق ويعقوب ربما كانوا يعتبرون الحثيين من شعوب موطن ابراهيم الخليل وبالتالي الزواج
منهم لا يعتبر زواجاً من الغرباء. وما قول رفقة لزوجها اسحق حول عدم رغبتها بزواج
يعقوب من الحثيين إلّا وسيلة لإبعاد يعقوب عن الخطر الذي يهدد حياته من قبل أخيه
عيسو وإرساله الى عشيرتها وأخيها لابان في حاران.
وبالعودة الى القصة التوراتية, ومسألة (حاران) بعد شكوة
(رفقة) زوجة اسحق من امرأتي عيسو الحثيتين دعا اسحق ابنه يعقوب وباركه وقال له: (
لا تأخذ امرأة من بنات كنعان, قم اذهب شمالاً الى سهل آرام, الى بيت بتوئيلَ أبي
أمك, وتزوج بامرأة من هناك, من بنات لابان أخي أمك) التكوين:2:28.
وقد مرّ أن ذكرت
(رفقة) لابنها يعقوب أن أخاها في (حاران), وبعد أن بدأ يعقوب الرحلة, ووصل الى أرض
المشرق, رأى في البرية بئراً وثلاثة قطعان من الغنم, رابضة عندها, فقال يعقوب
للرعاة من أين أنتم يا إخوتي.؟ قالوا: من حاران, فقال وهل تعرفون لابان بن ناحور؟
قالوا: نعم وها هي ابنته (راحيل) قادمة وهي ترعى غنم أبيها, وعندما رأى يعقوب
راحيل أحبها وقال: لها أنا نسيب أباك وابن أخته رفقة, ففرحت فرحاً عظيما وذهبا
معاً الى بيت أبيها, وأخبر يعقوب خاله لابان بكل ما جرى, فقال: له لابان أنت حقاً
من عظمي ولحمي, وأقام يعقوب عنده يخدمه مجاناً, لكن خاله لابان قال: له ما اجرتك؟
وكان للابان ابنتان, اسم الكبرى (ليئة) وكانت ضعيفة العينين, واسم الصغرى (راحيل)
حسنة الهيئة جميلة المنظر, فقال يعقوب: أخدمك سبع سنوات وتعطيني راحيل زوجةً لي,
فوافق لابان على ما طلب, وبعد انتهاء مدة سبع سنوات, جمع لابان كل أهل حاران وصنع
لهم وليمةً, ثم تزوج يعقوب من ابنة لابان, لكن يعقوب تفاجئ في اليوم الثاني أن
لابان خاله قد زوّجه بابنته الكبيرة (ليئة) بدل راحيل, فقال يعقوب: للابان خاله
لما فعلت هذا وخدعتني, وكنت قد طلبت منك راحيل؟ فأجاب لابان: (في بلادنا لا تتزوج
الصغرى قبل الكبرى. أكمل اسبوع زواجك من ليئة, فأعطيك راحيل أيضاً بدل سبع سنين
أخرى من الخدمة عندي), التكوين:26,27:29.
وهنا يمكن ملاحظة عدة نقاط ذات اهمية كبيرة, فيما يتعلق
بموطن ابراهيم الخليل وعشيرته, فعندما قال: اسحق لابنه يعقوب لا تأخذ امرأة من بني
كنعان واذهب الى سهل آرام, فظهر أن سهل آرام هي حاران نفسها, من خلال ما ورد أثناء
زواج يعقوب عندما دعا لابان كل أهل حاران الى وليمة الزواج. أما النقطة الثانية,
فهي عندما قال: لابان ليعقوب ابن اخته, في بلادنا لا تتزوج الصغرى قبل الكبرى,
فهذه العادة رغم مرور آلاف السنين لا زالت سارية المفعول لدى أهل منطقة حاران, ولدى الكرد بصورة عامة.
النقطة الثالثة: هي العمل سبع سنوات, لقاء أجر معين, أو زواج
معين, ولا زال رغم مرور آلاف السنين تروى القصص الكردية, أن فلاناً (بطل القصة) قد
عمل لدى إحدى الشخصيات المعروفة بمكانتها الاجتماعية, أو الاقتصادية, لقاء أجرٍ أو
زواج, لمدة سبع سنوات, مما يظهر من وجود تشابه ما يروى في القصص والروايات
الكردية, وما ورد في التوراة من عمل يعقوب لدى لابان خاله لقاء زواجه من ابنته
ليئة ومن ثم راحيل.
نعود الآن لنستذكر ما ورد من قرائن اخرى, في كتاب النبي
ابراهيم والتاريخ المجهول للدكتور سيد محمود قمني حول موطن ابراهيم الخليل الاول[4].
فيقول: أنه من المعلوم أن موسى[5]
التوراتي (المقصود به النبي موسى عليه السلام) قد نشأ في كنف فرعون مصر وتربّا في
بلاطه, لكنه تورط في جريمة قتل, قتل فيها مصرياً انتصاراً لواحدٍ من بني جلدته,
فهرب من البلاد خوف القصاص, ونزل البلاد الموسومة في التوراة بالاسم (مديان) وقد
حددها أهل التوراة في سيناء مع امتداد الى الشرق شمالي جزيرة العرب وسار الآخرون
خلفهم, وتم تسجيلها على الخرائط على هذا الاساس. لكن مع البحث والتقصي فإننا لا
نجد في نصوص مصر القديمة ما يشير الى بلاد باسم (مديان) في سيناء او على الحدود
الشرقية لمصر, والمفترض أن مصر تعرف حدودها جيداً, نعم هذه النصوص تتحدث عن بلاد
باسم (ميتان) أو بالقلب (متيان) لكن هذه البلاد تقع في أقصى حدود الامبراطورية
المصرية شمالاً, وليست على الحدود السينائية, بمعنى أن (ميتان) أو (ميتاني) التي
ذكرتها النصوص المصرية ربما هي (مديان) في قصة موسى التوراتي, خاصة إذا ما تذكرنا
أن اللسان المصري الرقيق كان يقلب حرف (د) الى (ت) فلماذا لا تكون (متيان) باللسان
المصري هي (مديان) باللسان العبري, ويذكر أن مصر آنذاك كانت قد طوت تحت جناحها
الأيمن كل بلاد الشام حتى الفرات شرقاً, أما آخر حدودها الشمالية فكان هو بلاد
(ميتان) والتي كانت عثرة على الحدود الشمالية, وما كان ممكناً لهاربٍ من العدالة أن يظل داخل أي أرض مصرية, ومن ثم
كان الهروب المناسب هو الى بلاد ميتان (مديان). (انتهى الاقتباس)
أهم ما في هذه
الجزئية فهي أن بلاد مديان هذه: إنما كانت جزراً من بلاد الحور (الحوريين) وضمن
الحزام الذي سبق وجاء منه أجداد موسى التوراتي والذي يؤكد مرةً أخرى وبلجوء موسى
من سبط اللاويين أحد أبناء يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الى منطقة الميتانيين
الحوريين, انتماء ابراهيم الخليل وعشيرته الى منطقة حاران الميتانية وبالتالي
تحديد أصله الميتاني الحوري.
ولعل موسى التوراتي
عندما فرّ الى تلك البلاد استعاد هناك أطياف الجدود, وتعرف على إلهه (جاهوفاه)
وعاد يخبر أهله في مصر بأن (جاهوفاه) يطلب خروجهم من مصر الى أرضٍ تصفها التوراة
دوماً (أرض اللبن والعسل)و (وجنة الرب) وعليه فإن موسى كان يقصد تماماً بلاد
(أرابخيتيس) الحورية.
ويشير عالم النفس التحليلي سيجموند فرويد في كتابه
"موسى والتوحيد"[6]
ما يمكن ان يفيدنا الى ما ذهبنا اليه حيث يقول:
وقد اعتنق اليهود
إلهاً يدعى "يهو" بعد اقتباسها في ارجح الظن من قبيلة المديانيين. وقد
كان "يهو" بالتأكيد اله البراكين. والحال ما من احد يجهل أنه لا وجود
لبراكين في مصر, وأن جبال شبه جزيرة سيناء لم تكن قط هي الاخرى بركانية. ولهذا كما
يقول فرويد: جمّل الحدث بمختلف المحسّنات القمينة بإبراز سلطان اله البراكين
الرهيب, وعلى سبيل المثال ظهوره على هيئة عمود الدخان الذي تحول ليلاً الى عمود من
نار, وايضاً العاصفة التي شطرت المياه فأغرقت المطاردين ما أن عادت امواجها الى
التدفق. أما كيف امتثل لهذه الايحاءات فيرى فرويد أنها انتقلت اليه عن طريق أمه أو
عن أيّ طريق آخر من آسيا الدانية أو النائية. أما كيف يكون عن طريق أمه فيعتقد
فرويد أن موسى كان من العائلة المالكة أي ابن الفرعون أمنحوتب الرابع الذي غير
اسمه الى (اخناتون) ومعروف أن زوجته نفرتيتي كانت ابنة ملك المملكة الحورية
الميتانية حسب بعض المؤرخين.
أما آخر القرائن على مقدم القبيلة الابراهيمية من جنوب ارمينيا حيث المنطقة
الحورية أو الكاسية أو (أور كسديم) فهي مستمد من كتب التراث الاسلامي, التي تحدثنا
عن أخبار عرب الجزيرة وأصولهم الأولى, فيقول ابن هشام (السيرة النبوية لابن هشام)
أن العرب كلها من ولد اسماعيل وقحطان, ومعروف أن اسماعيل هو ابن النبي ابراهيم,
ومعروف أن القحطانيين هم من سكان جنوب الجزيرة أصلاً, وهم من انتشروا في الجزيرة
باسم العرب العاربة, أي الراسخة في العروبية, أما العرب الاسماعيلية فهم العرب
العدنانية, وهم العرب المستعربة, أي لم يكونوا عرباً إنما اكتسبوا العروبية وسكنوا
شمال الجزيرة وامتدادها مع بادية الشام نحو الشمال على الخط القادم من الموطن الذي
افترضناه موطناً أول للعشيرة الابراهيمية.
ولنلاحظ أن العرب الاسماعيلية قد أطلق عليهم العرب
العدنانية, ويبدو أنه قصد منها التعريف بموطنهم (عدن) المذكورة في التوراة أو ما
أطلق عليه التوراة (جنة عدن), وربما كان هبوط بعض هؤلاء وتوغلهم جنوباً في جزيرة
العرب هو الذي أعطى مدينة (عدن) اليمنية اسمها الحالي تيمناً بعدن الأصلية في
الشمال حيث جنة (عدن) الحور الكاسية, ومن هنا نجد كتب التراث لم تزل تحفظ بين
طياتها قولاً رائع الدلالة والتوافق والتناغم مع ما ذهبنا اليه, فتقول: السيرة
الحلبية (وولد عنان يقال لهم قيس, وولد قحطان يقال لهم يمن) وهنا كلمة قيس لا
تحتاج الى ايضاح اكثر مما هي واضحة فـ(كاسي) هي (قيسي) ذاتها.
وهكذا نكون قد انتهينا من سرد الأدلة عن موطن العشيرة
الابراهيمية وأصله حسب ما توفر لدينا من الادلة والقرائن.
ليست هناك تعليقات: