فجائعيةُ الواقع تطغى على لغة سليم بركات في روايته (سبايا سنجار) غمكين مراد - اتحاد كتاب كوردستان

728x90 AdSpace

شائع
الجمعة، 5 مايو 2023

فجائعيةُ الواقع تطغى على لغة سليم بركات في روايته (سبايا سنجار) غمكين مراد

 فجائعيةُ الواقع تطغى على لغة سليم بركات  في روايته (سبايا سنجار) غمكين مراد

ثمَّة تلاقٍّ بين اللوحة الفنية، أية لوحة فنية، وبين الشاشة لأيِّ جهازٍ مرئي، على أقِّلِه خارجياً، حيث الإطار الذي يَشغُل الحيوات في داخلِهُما، لكن الأرواح المُسيِّرةِ لتلك الحيوات في لحظةٍ ما تتباعدُ على الأقل زمنياً.

فاللوحةُ تتحدَّدُ في روحِها حسب الصدى الذي تتلقفهُ روحٌ أخرى، بنظراتٍ تتالى لحظةً بلحظة وزمن بعدَ زمن، بشجونٍ وبأهواءٍ وأنفاسٍ أخرى.

بينما الشاشةُ - مَحصورةً هنا بلقيطها الأخبار فقط - فإن ما تُبَثُ منها هي وليدةُ واقعةٍ حياتيةٍ ما، بما يُسمى السبّق الإعلامي على هذا الكوكب الذي غدا صغيراً جداً، وحتى تَبِثُ اكتشافاتٍ جديدة من كواكب أخرى.

في ظلِّ هذا التلاقي، ثمَّة تلاقٍّ آخر من نوعٍ آخر بخيالِ مُبدعٍ آخر، هو حين يُزاوجُ بين أخبار الشاشةِ واللوحةِ ذاتها، وهذا ما ابتدعهُ سليم بركات في روايته "سبايا سنجار" حين أسقطَ بأدواتِ خيالهِ في عملية لا تتم حتى قيصرياً، ما حَبُلَت به لوحاتُ فنانينَ كِبار منتقاةٍ كوصفٍ لهولِ حدثٍ تاريخيٍّ غربي قروسطيٍّ ما، وبعناية الأرواح المسبية كأشباحٍ هائمةٍ على أديم الحياة من جديد، بعد أن غادرت أجسادها من قِبلِ ثُلَّةِ الأخبار القافزة على كلِّ الحياة، والعابثةِ فيها ما يُسقِطُ من الموت أقرفهُ، وما تُسْقِّط الحياةُ نَفسها من البشاعة اللأخلاقيةِ صوَّرَها!؟

سليم بركات هُنا خارج قوقعته تماماً، عارياً من لغتهِ وطقوسهِ، داخلاً الحياة بسكاكينهِ فقط، ربمّا، وبلغةِ الحياةِ ليكونَ مُحللاً سياسياً وإعلامياً كَمُقَدِّمِ أخبار، وقُرصاناً على الشبكة العنكبوتية، ومُستقْرِئاً لمآلِ ما يمرُّ به بلدهِ سوريا، كما أنّه في المقابل ناقدٌ فني، لا، وفنانٌ حقيقةً وإبداعاً في سبرِ أغوار اللوحات الفنية المأخوذة كعناوينَ لفصولِ روايتهِ، سليم هذا و أكثر في "سبايا سنجار"، روايةُ الحدث الإخباري والفجائعي والتوثيقي ، الرواية اللا منتمية إلى حياةِ هذا القرن كجوهرٍ يُتاخمُ العنوان بتفاصيلَ مُتدثِّرةً بكلّ الوجعِ والنفاقِ الكاذب الذي يُداولهُ الساسةُ المقاولون على مصير شعوبِ الشرقٍ عامةً والأقليات، وحتى الأكثرية، خاصةً، المُصَنَّفة  عندها إرهابيةً، لكن تبقى بحُكمها رواية ينسجُ تلافيفها خيالُ المُبدع، كانَ لابُدَّ لسليم أن يُزاوج هكذا حدث وخيالهِ كصبغةٍ للإبداع مؤطِرَة الروايةَ كَفَنْ.

إن صاحب " فُقهاء الظلام" لا يخرجُ في روايتهِ هذه عن حيوات أشباحهِ وجنِّهِ، في العودة لخوض غِمارِ حياةٍ جديدة في الموتِ نَفْسُهُ ومعَهُ، حين يستعيدُ عِبرَ خمسِ فتياتٍ مسبيات، ميتات من قبل خمسةِ رجالٍ من مُمتهني الذبحِ والقتلِ والسبيِّ، ميتين بدورهم، عبر سيرتين مُتلاقحتين في النهايةِ التي أودَّت بكليهما: المسبية ومالِكها، كاستعادة الموتِ لحياةٍ فيه كانت حياةً في حياة:

"أنا لا أخاف، أنا ميتة" هذا ما تُرَدِّدهُ شاهيكا على سؤالِ سارات. إن كاتب "أنقاض الأزل الثاني" يؤرِّخ للحدث اليومي المتُلقف من نشرات الأخبار: مسموعةً ومصورةً ومتخيلةً.. مُجسِداً هذا الحدث في استرجاع أبناء الخلافةِ لمآثرهم الخليعةَ في القتلِ والتدميرِ والذبحِ والسبيِّ لقبائلَ رُدَّت إلى الوراء بآلاف السنين:

" لثمّتُ أكتافَ أربعةٍ من جنودِنا في أربعةِ مواقع، وهم يَصعدون مركباتِهم لتفجيرها على حواجز الكفرةِ الكُرد. في الهجوم على نواحي أربيل، لثيابهم روائحُ الجنة، يا سارات، وتستطيعُ إن أمعنتَ النَّظر إليهم بقلبٍ مؤمن، أن ترى أذرُع الحوريات ممدودةً لعناقِهم، يا للنعيم، أنتَ مؤمن، يا سارات؟"على لسان شبحٍ من أبناء الخلافة.

كما ويؤرِّخ كاتبُ " السماءُ شاغرةٌ فوق أورشليم" لسيرةِ بلدٍ، مزرعةٍ، بِمُلاكٍ يُظلِّلهُم خيالُ الأبدْ، بلدهِ سوريا في تكويرتهِ المولودةِ فيها، والباقيةِ فيها، أيضاً، بلدٌ آمنٌ ظاهراً، حروبٌ كانت فطورَ وغداءَ وعشاءَ الشعبِ في البلدِ كُلِّه، أسلحة المُلاكِ في تمويه الشعب ليست سوى: كلماتٌ وشعاراتٌ فقط، لاسترداد أرضٍ لن تُستَّردَ أبداً، ولن تُطلِّق على مُحتلِّها رصاصةٌ واحدة من أجلها أبداً،  يُسوِّغُها المُلاكُ الواقفينَ كهجانةٍ يَحرسُونَ سلامة المُحتل من وراء بطولاتِ شعاراتهم، كلماتٍ يبثونها كلحظةِ الجاهزيةِ العسكريةِ أبداً مُستغلين الكرامةَ والنخوةَ في ناموسِ أبناءِ البلدِ المواطنين:

"...خُذِّلَ السوريون في رغبةٍ أبدوها، بعد عشرات السنين من نهبِ الوحش الحاكمِ أحلامهُم، أن يكونوا سوريين بلا خوف"

الصدى الذي تردّد من جبلِ سنجار وصلَ إلى كلّ جهاتِ وزوايا الكون الصغير، صدى الذبحِ والقتلِ والوجعِ والسبيِّ والهروبِ واللجوء، صدى رفرفةِ العلم الأسود لِمِلّةِ أهل الذبحِ على جبل سنجار، من هنا أراد سليم بركات لبطلهِ سارات الكردي السوري الفنان،  أن يرسم ذاك الجبل حزيناً، أراد من سارات تحويلَ الحزن إلى روحٍ تسكنُ جسد الجبل، وليُظهِّرَ بعدها صدى الجبل أشباحاً من أهلِ الجبل ذاتُه، وقد غدوا أحياء مهاجرين إلى أوروبا القارة العجوز مع أشباحِ قاتليهم، أيضاً مُهاجرين ميتين، أكسَبَهم، ساراتُ سليم، الحياةَ من جديد بعد وصولهم إليها عن طريق البحر الذي امتد عليه إسفلتٌ من جثثِ آخرين، لم تقدّهم النجاةُ إليها إلّا أشباحاً بدون رفةِ حياءٍ من هيئات الأمم:

"لا يكفي القارةُ العجوز مُهاجرونَ أحياءَ على الأرجح. مُهاجرون موتى يقصدُونها أيضاً كانت تلك خاطرةٌ عن تعليقٍ خياليٍّ على ظهورِ الفتاة الإيزيدية من غيب خيالها بعد الموت"

راهنيةُ وفجائعيةُ وعالميةُ وعدم معقوليةُ السبيِّ الذي تعرضن له البنات الكرديات الإيزيديات على أيدي وعقولِ أهل مذهب الذبح (الدواعش) واللغة التي تداولت الحدث أجهضَتْ لغة سليم من كتاباته السابقة، لا يحتاج قارئُ رواية "سبايا سنجار" إلى الحفرِ في الكلمة وضرب أزميل العقلِ بالحرفِ وإنمّا الإحساس والمتابعة لذاك الحدث وتبعاتهِ.

لغةُ سليم جاءت حسبَ ما يحتاجهُ السردُ للحدث الإخباري وللواقعةِ الراهنة؛ سليم بركات باعتباره سوريُ المولِد يُعبِّرُ عن انفطارِ قلبه مع كلِّ بيت يتهدّم وكلِّ عائلةٍ تهربُ لجوءاً أو لا تصل، حين تغرق على يد سماسرةِ البحر، وكلُّ ذلك أمام مجتمع دوليٍّ يقرُّ في كلِّ نطقٍ لهُ بعدمِ أخلاقيته تجاه هولِ الرعبِ والقتلِ والتدمير الذي يعيشه السوريون يومياً على مدار السنين المُعاشة هذه، كلِّ الأطراف وكلّ الساسةِ  الدوليين صاغوا حقوقاً جديدة في تشريعاتهم المخروقة أصلاً:

"منذ الحرب الثانية الكبرى في كونِ البشر المهازل لم يحدث تمهيدٌ مُبشِرِ بنهاية الأخلاق إلّا في أيامنا هذه. ربمّا هو الألم يستوجب قساوة حكم في ترتيب النهايات، والآخريات، كحكمي لن أتراجع عن ذلك".

إنَّ صاحب"معسكرات الأبد" لم يترك ولو جزئيةً صغيرةً في وصفِ الوضع السياسي الدولي وانفجاره في رأس الشعب السوري، كشعب مهيّأٍ للنحرِ والدفنِ حياً وبكلِّ ما يخطر على بالِ الموتِ من طريقة يتخيلُّها، ولا يلجأ سليم في روايته هذه إلى الترميز أو إلى خيالٍ يُسقَطُ على واقعٍ، وإنمّا يُسمِّي كلَّ شيءٍ وكلَّ شخصٍ باسمهِ وحتى كل نيِّةٍ وكلَّ فعلٍ وكلَّ قولٍ، ليس لأنّها لا تُحوَّر، بل لأن الواقع أشدُّ فتكاً وهولاً وانعداماً لللأخلاقية الإنسانية، مُبتدءاً من نفاذِ صبرِ السوريين من سجنهم وكبتِهم الطويل، ومروراً باستنباط عدوٍ عقيدتهُ: الذبح والحرق من لدُّن وخارجِ هذا الشعب الوحيد، إلى فتاوى ظلِّه خامنائي، بجهادِ المراقدِ والشروعِ في السيّر في موت السوريين بأدواتٍ هي الوجهُ الآخرُ لمِلِّة الذبحِ، وكان من قبل ومع قتل السوريين، العراقيين، بإرادة ما بعديّة يرسمُ تفاصيلها المهديُّ المنتظر، ليُحوِّل هذا الشرق إلى جنةٍ شمعداناتُها  جثثُ أبرياء، وقوفاً عند الخطوط الحمر للرأس العالمي حسين أوباما الكذاب، بخطوطه الحُمر هذه، ومجلس الكراسي القائمةِ على خازوق الفيتو الروسي، وليس انتهاءً بأردوغان الحالمِ باستعادة خلافةِ الأقاليم السبعةِ، والفاتح ليس للقسطنطينية كأحمدهِ، وإنمّا لحدودهِ تمريراً لأهلِ مِلّة الذبح الداعشية، وصولاً إلى لقيط راسبوتين، القيصر الجديد بوتين الذي ألهم اليسار العربي بوصفه قاتلاً للشعب السوري، كشهادةٍ لوقوفهِ في وجه الإمبريالية العالمية، رغم تحويله الماركسية من صراعٍ طبقيٍّ إلى مافيا بوتينية، وليس بعيداً عن كلِّ هذا الشمل المميت حول رقبة السوري، أوروبا الملتهية بلعبة اللاجئين وانتقاء المفخخين منهم، أوروبا الآخذة بوحيٍّ من شرقيٍّ هو رئيس إيران، ولادة الحياء من جديد في زيارتهِ لها التي من منجزاتها العظيمة تغطية التماثيل العاريّة!:

"سيذكر التاريخ لإيران أنها دشنت في أوروبا "حقوق الحياء" التي لم تكن ثبتته بين حقوق الحيوان، الإنسان"

فاجعة سنجار وسبيُّ الإيزيديات من قبل منظمةٍ مستوحاةٍ من فكر الاستخبارات العالمية، تهدفُ إلى إرجاع البشريةِ إلى عصرٍ تتعامل فيها بغريزة الحيوان دفاعاً وهجوماً، صَدمت العالم ككلّ، سليم حوّل هذه الصدمة إلى سردٍ روائيٍّ للحدث بتفاصيله، مُملحَاً بقراءة مُعمَقةً للوحاتٍ كانت عناوينُ فصولَ كتابه العشر لتطُل من زمن الحيوان الغربي الغابر إلى زمن الحيوان الشرقي المُعاش، قاسم الزمنين المشترك: همجيةٌ في كلِّ المناحي الفكرية والأخلاقية والحربية والاقتصادية والسياسية..... همجيةُ الفناءِ كوسيلةٍ وكهدفٍ!!؟

وهكذا يكون سليم قد أسقطتهُ الوقائعُ الراهنة في سنجار وسوريا من لدُّنِ لغته وفانتازية رواياتهِ السابقة إلى لدُّن الإحساس المشترك المُعاش ألماً مع الضحايا دون أن يستغني عن أبطالهِ الأشباح وعدوهِ الموت وضحيتهِ الزمن.

 

الكتاب: سبايا سنجار       الكاتب: سليم بركات.        المؤسسة العربية للنشر والتوزيع 2016



فجائعيةُ الواقع تطغى على لغة سليم بركات في روايته (سبايا سنجار) غمكين مراد Reviewed by Yekîtiya Nivîskarên Kurdistana Sûriya on مايو 05, 2023 Rating: 5  فجائعيةُ الواقع تطغى على لغة سليم بركات  في روايته (سبايا سنجار) غمكين مراد ثمَّة تلاقٍّ بين اللوحة الفنية، أية لوحة فنية، وبين الشاشة لأ...

ليست هناك تعليقات: