ما أقبح وجه العالم - نصّ سردي: - اتحاد كتاب كوردستان

728x90 AdSpace

شائع
الجمعة، 6 سبتمبر 2024

ما أقبح وجه العالم - نصّ سردي:

 

ما أقبح وجه العالم
نصّ سردي

Pênûsa Azad-h-18


إسماعيل رسول

فتحت عينيها، وهي راقدة على سريرٍ باردٍ في المشفى، وبعد عودة الرّوح إلى بتلات الوردة الذابلة، كم رغبت بقوة بألاّ تعود، حتى لا ترى تلك اللوحات المزيفة المعلقة في جدار الحبّ الطاهر، وما أكثرها في هذا العالم!  فقد كرهت كلّ شيء، وتمنت الموت في اللحظة.

تذكّرت هيفي شريط أيامها كمسلسلٍ سريع، كيف كانت قد أبحرت الفتاة المكلّلة بالحزن، في أحلامها الوردية، التي سقطت كوريقات الخريف، ورقة تلو الأخرى، تلاطمت أمواج مشاعرها فجأة، و كأنها في موعد مع عاصفة هوجاء، الشيء الذي هزّها من الأعماق، وكسّر زجاجة خاطرها على صخرة الأيام. لم تكن تدري قط، بأنّ ورقة خيالها تحمل كل هذا العنفوان والسّقوط، بعد أن طبعت الذاكرة عليها صورة العذاب. و في أحد الأيام، اعتبرته أجمل يوم في حياتها، ضربت بيديها الطاولة، صديقتها اليتيمة في الغرفة، التي تحملت الضربة، واستقبلت شحنات مشاعرها بمقاومة عنيفة من قوائمها، أما هي فأجهشت بالحسرة، وأدمعت من أعماقها دون أن تذرف عينيها، الذي سرق الليل منهما كل حلكته.

          تحملت كل هذا العذاب في هذه المدة التي تراءت لها طويلة، دون أن يدغدغ مشاعرها أو يلطف من عذابها شيءٌ جميل، قد ينسي أو يخفف من وطأة الأيام الحالكة التي مرت فيها، كقطار عتيق يجوب القارات على مهلٍ، وهي تكتوي بنار الوحدة. قالت في نفسها بعد إن فقدَتْ ثقتها وشكَّكت بكل شيء: هل هناك مفردات أو معاني بكر في قاع الحياة ومازالت عذراء.

          تركت عائلتها القرية النائية، منبتَ رأسها لتغوصَ في غياهب الغربة، هذه الكلمة التي تعني لها، بُعدها عن ذاتها، أكثر مما تعني بُعدها عن المكان، بعد أن تجرعت سنة كاملة من كؤوس الأحلام الوردية، شيّدت خلالها الكثير من الآمال الطازجة مع خطيب الأمس هفال، الذي كان يدرّسُ في قريتها، حيث كانت حفلة الخطبة قلّ نظيرها في القرية، بل وفي القرى المجاورة أيضاً، وتتذكر، كم هتفَتْ أصابعُها المضمومةُ بين أصابعه لأول مرة: أتمنى أن تظلَّ معي، لنبني عالمنا الخاص، غفَت أصابعُها لحظاتٍ، شعرَت فيها بدفءٍ وشردت تتنزّه في خيال أنامله، كان يقول لها قبل الخطبة: أميرتي أنت!! سأشيِّد لك مملكة من النرجس والزيزفون، إنْ مدّت الحياةُ أصابعَها لي، ووفقتُ في إكمال دراستي وحصلت على وظيفة دائمة؛ سنجوب العواصم التي أينع فيها الحبّ كلّها، وسيخلّد التّاريخ اسمينا كعاشقين لم يختلفا يوماً، وأصابا مرادهما بكل فخر واعتزاز، سنكون مثالاً لكل عاشِقَين، وسنثبت للتّاريخ بأنّ الحبّ ليس التوحد الجسدي والروحي فقط، و قادر أن يعيش في كل زمان ومكان. بل أكثر من ذلك بكثير، أنه الفرح والسعادة وإكسير الحياة كلها، كان يقصّ لها قصصاً عن الحب والتّضحية من أجله، بروح متيّمٍ لا يعكرها فشلُ المحبين في العالم، هذا الكلام المعسول يمنح الأمل لهيفي، هذه الفتاة الريفية التي نضجتها الشمس الحارقة على صفحة البساطة والبراءة وتعلقَت بهذا الأمل الذي سيرسم مسيرة حياتها، ويصبحُ السّبب في انعطاف مستقبلها بهذا الشكل أو بآخر .

كانت هيفي الملاك التي ضربَت مضارب الجمال بكل قوة، ترد عليه وفي أعماقها خوف ما، ملغز أو  غامض و ملغم، تخشى أن يسدّ عليها شريان المستقبل الشفّاف في لحظة ما، ورغم إدراكها البون الذي يفصلهما عن بعضهما، لكنها كانت تطمئن نفسها بأن الحبّ لا يعترف بالحدود: حبيبي لا أريد قصور مشيدة أو حدائق معلَّقة، فلاشيء يشفي الخيال إلا رشفة قليلة من الواقع، فجرعة قليلة ودائمة من الحب خير من حبٍّ عارم لا يدوم، نحن جميعاً نبحث عن الحبّ، وعندما نجده، يتمنى البعض منّا قائلاً: ياليتَنا لم نجده، لأنني كما تدرك  وبقراءتي المتواضعة- كتواضع دراستي التي لم أكملها لسبب ما رغم ذكائي- لدروس الحياة وكتواضع طين ريفنا وبساطة قشور هذا العالم التي عجنتنا، أريد أن أرى مستقبلاً شفّافاً، ممزوجاً بحبٍّ دائمٍ لا ينضب حنينه مهما واجهتنا علينا الظروف. حبيبي إني سأعوض لك عن دراستي بمدرسةٍ تكون مملكة لحبنا ...

   تساقطت اللآلئ من عينيها هذه المرة بسخاء وأجهشت الطاولة بهزّاتٍ خفيفةً وتناغمت معها بصمت. والبركان يؤجج في كيانها المتوقّد، الذي لم يطبع في خديها الخجولين سوى خمسة وعشرون ربيعاً من الزيزفون .

تناهى إلى سمعها صوت المدير: هيفي! يا هيفي! تلاطم خرير مشاعرها مع صوته، ارتبكت، ووقفت، أحسّت بأنها ارتكبت إثماً عظيماً بهذا الكابوس الذي تمكّن من أخذها بلذة أو عنوة إلى سفوح القرية التي تستظل بجبل جودي الذي يسري بينهما الحبل السري، نهر الدجلة ليضخّ الحياة بلا راحة مذ خروجه من رحم هضبة أرمينيا، وانضمامه إلى توأمه الفرات الذي قطع بدوره البراري والفلاوات، ليلتقيا بحميميةٍ كعاشقين، سجّلا اسميهما على سجاجيد الخالدين الأوائل، لا ينضب حنينهما قبل الولوج في شطٍّ جميل ليبحرا معا إلى الأبد..

لملمت نفسَها واستعادت كرة تنهيدتها عميقةً، لتزفرها على صديقتها بكل قوة، ودخلت على المدير الذي كان يجلّها كثيراً، وذلك لصدقها وأمانتها وبداهتها، فكانت بحق أرشيف أسراره، الميزة التي لا تتصف بها إلا النادرة من أزهار جلدتها، سألها: ما هذه التكشيرة العريضة على وجهك الذي لا يستحق أن تذبليه بحلم تبخر من أمد بعيد؟ أدرك المدير سرّها، وسألها عن الجديد من أخبار المكتب. تفرس في سحنتها، قرأ الحزن في عينيها، رثى لحالها كثيراً، ما رأيك في حضور حفلة جميلة؟ لقد اتفقنا أنا وأم حسن وابنتانا بأن ترافقيننا في حفلة جميلة الليلة في صالة الأمل، افرحي يا بنت أن اسمها على اسمك على ما أعتقد، وأكثر من ذلك قد تنسيك هموم المكتب ومتاعبه. لكنها رفضت بكل قوة: لا يملك قلبي مساحة من الفرح، فقد تمكن اليأس مني رغم ما أني واجهته في البداية بقوة، فقاطعها قائلاً: دعي هذا التشاؤم جانباً، فالحياة لا تبالي من يواجهها بالرفض أو الرّضا. وهي ماضية دون أن تسأل الذي يتخلفها، فالمقابر ملأى بالذين ظنّوا بأنها ستتوقف من دونهم، وعلينا أخذ العبرة من ذلك. وأصرُّ مرة أخرى بمرافقتنا، كأحد أفراد العائلة. وأخيراً وتحت الخجل والضغط، وافقت على مضض، دون أن تسأل عن نوع الحفلة ولمن تكون، فهي مدعوة لاسم أبي حسن.

     في دار العائلة المتواضعة كعش الحمام على تلة من تلال مدينة الياسمين والكائنة في حي شعبي من أحيائها، كانت تعيش مع والدها ووالدتها وأربعة عصافير تزقزق داخل المدارس، والدها يعمل بأعمال حرة وهي تساعده وبالكاد في تأمين لقمة الخياة، في مدينة كبيرة كهذه، فحالهم كحال أسماك صغيرة في محيط من أسماك القرش، حيث غادرت الرحمة والشفقة القلوب التي دمّرتها هشاشة العقول وحمّى التاريخ .

في البداية ترددت كثيراً في لباسها وزينتها، خاصة وهي سترافق عائلة المدير، الشيء الذي حيّر أمرها أكثر من الحفلة ذاتها، لكنها لم تحترْ في اختيار فستانها الأحمر الذي يحمل معاني خاصة في لونه، فهو يختزن الكثير من نفسها، دارت به دورتين حول نفسها أمام المرآة، ووضعت أحمر الشفاه، بعد وضع بعض المساحيق الخفيفة، ولكن! دمعة شاردة كانت أسرع من تلك التنهيدة العميقة التي هزت غصنها البض كقوائم صديقتها في المكتب، و قد فرّت من عينها، ورسمت موالاً صغيراً على خدّها الأيمن الذي كان يسابق الجلنار في يوم ما بعفته، ودلاله، وحمرته.

في العاشرة مساءً، استقبلهم والدا العريس بابتسامات عريضة، والموسيقى تصدح في كل حجرة من الصالة التي استقبلتهم بدورها بطاولاتها الطويلة كقطار مفتوح الجوانب، صحونه تعرض كل ما لذ وتشتهيها العيون، جلسوا في مقاعدهم المخصصة قبالة حلبة الرقص،  الحلبة كانت في جنون من أمرها حيث الأيادي المتعرقة والمتشابكة بعذوبة كقصائد جميلة وراقصة، والعروسان على مصطبة الفرح يوزعان الابتسامات بغرور صوب المحتفيين، الطاولة العريضة أمامهما ملآى بالفواكه، وكل فاكهة تدعي بأنها هي الملكة على هذه المائدة، ولدى تقاطع نظرتها بوجه هفال وفتاته الجديدة الجالسين معاً على مائدة قريبة، احمرّت وجنتاهاّ وأحسّت بأن قلبها سينفطر، وأصابها عرق خفيف، ثم دوخة، انهارَ العالم أمامها، ثم انهارت هي أيضاً، و أغمي عليها .فهرع الجميع إليها.

 

كان هفال يطعم فم خطيبته اللوزي حبات الكرز بغنج ويقول: ما أجمل وجهك ياحياتي! بينما كانت هيفي في طريقها إلى المشفى مغمى عليها. مع تمايل جسد العروسين معاً والموسيقى الصاخبة، يملأ صداها آفاق الصالة بلا انقطاع.

قالت بملء عينيها: ما أقبح وجه هذا العالم!.

 

 

 

ما أقبح وجه العالم - نصّ سردي: Reviewed by Yekîtiya Nivîskarên Kurdistana Sûriya on سبتمبر 06, 2024 Rating: 5   ما أقبح وجه العالم نصّ سردي Pênûsa Azad-h-18 إسماعيل رسول فتحت عينيها، وهي راقدة على سريرٍ باردٍ في المشفى، وبعد عودة الرّوح إلى بتل...

ليست هناك تعليقات: