قدسيّة النّار ورمزيّتها -نايف جبيرو - اتحاد كتاب كوردستان

728x90 AdSpace

شائع
الجمعة، 6 سبتمبر 2024

قدسيّة النّار ورمزيّتها -نايف جبيرو

 

قدسيّة النّار ورمزيّتها -نايف جبيرو




يقال: عندما اكتشف الإنسان النّار تديّنَ.

لم يكن تعامل الإنسان مع النّار منذ الأزل بمعزلٍ عن تعامله مع العناصر الأخرى الأساسيّة المكوّنة لوجوده ولمعتقداته الرّوحيّة، التي تعتبر العناصر المقدّسة والرّئيسيّة لوجود الأشياء جميعاً كالماء والتراب والهواء، وقد أظهر المؤرّخون وأصحاب الدّراسات البحثيّة من خلال مكتشفاتهم لمسيرة الإنسان في رحلة تطوّره الطويلة أهمّيّة اكتشاف النار، وتأثيره على هذه المسيرة والذي لا يقلّ أهمّيّةً عن اكتشاف الزراعة، فالإنسان البدائيّ لطالما راقب النار من حوله واحتار في شأنها عندما كانت تنشب بفعل عوامل متعدّدةٍ، كالحرارة العالية المتولّدة من عوامل الطبيعة أو البرق أو الحمم البركانيّة أو غيرها، ولا شكّ أنّ تلك النّيران قد طالت هذا الإنسان مراراً وتكراراً حتّى أصبح يتفاداها غريزيّاً قبل أنْ يعي عقله ذلك، لكنّ هذا الإنسان وفي لحظةٍ ما وجد أنّه من الممكن السّيطرة على هذه النار والاستفادة منها في حياته اليوميّة، عندما اكتشف ذات يومٍ أنّ لحم الغزال الذي احترق جزئيّاً في حريق الغابة ألذّ وأفضل طعماً وأسهل هضماً من لحمها النّيّئ.

لقد أصبحت النار بالنسبة للإنسان منذ الأزمنة السّحيقة جزءاً أساسيّاً لاستمراريّة الحياة لديه، ودخل في صميم جزئيّات حياته الرّوحيّة، فاتّخذ من النّار وسيلةً للتّدفئة والوقاية من برد الشّتاء القاسي، ووسيلةً للإنارة، والطبخ، ووسيلةً للحماية من الوحوش الضّارية والمفترسة، ومعالجة بعض الأمراض وغيرها إضافةً إلى الاستفادة منها في التّعدين وفي صهر المعادن والحدادة وصنع السّيوف والرّماح والدّروع وغيرها.

دخلت النار في حياة الإنسان اليوميّة وبات إنسان العصر الحجريّ يخشى انطفاء النار، لصعوبة الحصول عليها مجدّداً وإعادة إشعالها مرّةً أخرى، كما خشي انطفاءها لأنّها أصبحت لديه مع مرور الزّمن قبسٌ من الإله وبركةٌ من بركاته، فكان انطفاؤها انقطاعاً لما بينه وبين معبوده، وانفصالاً للعهد الذي قطعتْه له بالحفاظ على حياته ورعاية معاشه، لهذا كان للقبيل البدائيّ شعلته الدّائمة، حولها تجتمع الجماعة مساءً فتخفّف من وحشتهم وتجمع شملهم، وعندما توسّع القبيل صار لكلّ بيتٍ شعلته الدّائمة التي لا تنطفئ، رمز لوحدة العائلة واجتماعها حول الأمّ وحول موقد البيت، فإذا أراد أحد أفراد العائلة الاستقلال وتكوين بيتٍ مستقلٍّ حمل من موقد أهله شعلةً وضعها في سكنه الجديد، توكيداً على صلته التي لن تنقطع رغم بعده.

استمرّت هذه الطّقوس قائمةً في العصر الحديث لدى القبائل البدائيّة، كما ارتبطت هذه الطّقوس وممارستها بصميم ممارساته العقائديّة الرّوحيّة لدى مختلف الشعّوب والقبائل من خلال تقديس النار كرمزٍ من رموز الآلهة، فعندما انتقلت عشتار سيّدة الشّعلة في بلاد الرّافدين من بيت المزارع القديم وحقله إلى معابد المدن، انتقلت معها شعلتها المقدّسة الدّائمة الاتّقاد، وصار للنار العشتاريّة كاهناتٌ عذراواتٌ متفرّغات لحراستها والإبقاء على جذوتها وإقامة الطّقوس الخاصّة بها. كما ارتبطت النار بعبادة إيزيس المصريّة، خصوصاً في شكلها القمريّ النّاريّ تحت اسم "باست"  التي كانت تصوّر على هيئة سيّدةٍ برأس هرّةٍ([1]) كما أنّ رمز الشّعلة المقدّسة ظهر أكثر التصاقاً بالإلهة الرّومانيّة "ديانا" فلا تظهر في رسمٍ أو نحتٍ إلا وفي يدها مشعلها المضيء، وكلمة ديانا نفسها إذا أعيد إلى جذرها القديم تعني المضيئة،  وذلك إشارة إلى خصائصها النّاريّة "ديانا" التي كان من ألقابها "فيستا" والتي كانت من أجمل آلهة الرومان إطلاقاً،  وعذراءَ كصنوها "ديانا"  طاهرةً كشعلة النّار التي ترمز إليها "فيستا" التي تحوّلت إلى إلهةٍ مستقلّةٍ موكلةٍ بالنّار عموماً، وبالنار المنزليّة ونار الطّقوس الدّينيّة خصوصاً.

ارتبطت النار بعبادة الأمّ الكبرى لحضارة السلت "بريجيت" التي حافظت على وجودها في إيرلندا تحت اسم القديسة "بريجيت" وبعد انتشار المسيحيّة وإلى يومنا هذا تقوم كاهنات الأمّ القمريّة التي دعاها السلتيّون بأمّ الآلهة بحراسة نارها المقدّسة وهنّ في لباس راهبات السيدة مريم في دير كيلدر بإيرلندا، وفي الثاني من شباط يحتفل الإيرلنديّون بيوم قدّاس الشّموع، وهذا اليوم يتوافق في تاريخه مع عيد الإلهة "بريجيت" القديمة تماماً، كما يتوافق يوم المشاعل المخصّص للإلهة "ديانا" مع يوم صعود السّيدة مريم في إيطاليا.

أمّا عن النار المقدّسة عند العرب قبل الإسلام فيذكر التاريخ أنّ العرب قد مارسوا طقوساً كانتِ النار محور شعائرها المقدّسة، فيذكر أبو العباس أحمد القلقشنديّ في كتابه نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ثلاث عشرة ناراً من نيران العرب في الجاهليّة([2]), وأهمّ هذه النيران كانت نار المزدلفة، التي كانت تُوقد في المزدلفة لتُرى من عرفة, والمزدلفة كانت موضعاً لعبادة النار، حيث يشير المؤرّخون المسلمون إلى هذا التّلّ كتلّ النار المقدّسة، وكان إله مزدلفة هو "قزح" (صاحب قوس قزح أو قوس الطيف...) وهذه الكلمة هي الكلمة التي لا زالت في اللغة العربية وتحمل محتواً وثنيّاً جاهليّاً وكان إلهاً للرّعد.

ونار المزدلفة كانت تُوقد في الجبل المقدّس وتسمّى أيضاً قزح، وكان يقام هناك تجمعٌ بما يشبه بذلك الذي كان يُقام على سيناء. وفي الحالتين كان إله الرّعد يظهر في النار، وكان يقصد من ذلك حسب العادة التّقليديّة آنذاك في إيجاد أكبر قدرٍ من الضّجيج والصّياح على شكل تعويذةٍ لجلب التّعاطف ومخاطبة الرّعد، وأوّل من أوقد نار المزدلفة كان قصي بن كلاب الجدّ الخامس لنبيّ الإسلام محمّد (ص).

 وثاني أهمّ هذه النيران كان نار الاستمطار, ، فقد كان العرب إنْ أصابهم الجفاف والقحط يمارسون طقوساً تستهدف حثّ القوى الإخصابيّة بواسطة النار، فكانوا إذا احتبس المطر خرجوا لصلاة الاستسقاء، فأشعلوا ناراً في أذناب البقر وتركوها تنحدر من قمّة جبلٍ وعرٍ، اعتقاداً منهم بأنّ تلك النار سوف تستنزل عليهم الغيث, وبينما كانت الأبقار تندفع نحو السّفح في خوارٍ وضجيجٍ، كانوا يرفعون أصواتهم بالصّلوات والأدعية.

 أمّا النّار الثالثة فكانت نار الحلف, حيث كانوا إذا أرادوا عقد حلفٍ أوقدوا النّار وعقدوا الحلف عندها, ويذكرون خيرها ويدعون بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحلّ العقد.

 أمّا النار الرابعة فكانت نار الطّرد, حيث كانوا يوقدونها خلف من مضى ولا يحبّون رجوعه, والنار الخامسة كانت نار الأهبة للحرب, فكانوا إذا أرادوا حرباً أو توقّعوا جيشاً, أوقدوا ناراً على جبلهم ليبلغ الخبر أصحابهم فيأتونهم, والنّار السّادسة كانت نار الحرّتين في بلاد عبس تضيئ وتسطع في الليل وفي النهار دخانٌ يرتفع, والنار السّابعة كانت نار السّعالي ترفع للمتقفّر فيتبعها, والغول تهواه على زعمهم، ثمّ كانت النار الثّامنة, نار الصّيد التي كانت توقد للظباء وتغشاها إذا نظرت إليها, والنار التّاسعة كانت نار الأسد التي كانوا يوقدونها إذا خافوا الأسد لينفر عنهم, ثمّ كانت النار العاشرة, نار السّليم التي كانت توقد للملدوغ, وكذلك للمجروح إذا نزف دمه, والمضروب بالسّياط, ومن عضّه الكلب, أمّا نار القرى, النار الحادية عشرة, فكانت تُوقد ليلاً فيراها الأضياف فيهتدون إليها, ونار الفداء كانت النار الثّانية عشرة, حيث كان الملوك إذا سبوا نساء قبيلةٍ خرجت إليهم السّادة منهم للفداء والاستيهاب, فيكرهون أن يعرضوا النساء نهاراً فيفتضحنَ, أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسبون لأنفسهم من الصفي, فيوقدون النار لعرضهن.، والنار الثالثة عشرة فكانت نار الوسم, وهي كانت النار التي يسم بها الرجل منهم إبله, فيقال له: ما سمة إبلكَ؟ فيقول كذا.

العرب قبل ظهور الإسلام كانوا يعبدون عدداً من الآلهة، ومنها "اللات" الذي كان يرمز إلى كوكب الزهرة، و"العُزّى" الذي كان يرمز إلى الشّمس، ومن هنا يُعرَف بأنّ العرب قبل الإسلام كانوا يعبدون الكواكب المضيئة التي كانوا يرونها ويتأثّرون بها والضوء لا يأتي إلا من مصدرٍ ناريٍّ ولذلك كانوا يقدّسونها.  والشّرق هو جهة شروق الشّمس وبزوغ ضوء الشّمس منه ومعروفٌ أنّ الشّمس هي كتلةٌ ناريّةٌ.  والشّرقة هي اسم صنمٍ عند العرب قبل الإسلام،  والشّرقة هي أيضاً لقب قيس بن معد بن يكرب.

أمّا تقديس النار في الدّيانة الزّرادشتيّة فقد بلغ أوجه, حيث إنّ أتباعها يقدّسون النار على اعتبارها التّجلّي الحقيقيّ للإله أهورا مزدا،  ولا شكّ أنّ للنّار في الزّرادشتيّة مكانةً خاصّةً وقدسيّةً رمزيّةً،  والنّار في الزّرادشتيّة ليست معبوداً في حدّ ذاتها،  وإنّما تجسيدٌ للضياء الإلهيّ،  وهي سرّ الحياة وروح العالم ورمز القوة الإلهيّة في الوجود، كما أنّ النّار في الزّرادشتيّة تتجاوز في أغلب الأحيان الرّمزيّة الخاصّة بالضياء،  لتدخل في أساس الوجود بأكمله،  فقد مُنِحت النّار ميّزاتٍ إلهيّة لم تُمنَح لغيرها من العناصر الكونيّة،  فهي إلى جانب كونها تجسيدٌ للضياء الإلهيّ، فهي كذلك تجسّد الصّدق المطلق، ضدّ الكذب المظلم،  فالكاذب عقوبته في الزّرادشتيّة في العالم الآخر مكوثه في ظلمة الجحيم ثلاثمائة عامٍ،  وليس هذا فقط وإنّما النّار وسيلةٌ اختبار من يُشكَّكُ في صدقه في الدّنيا،  وفي هذا الصّدد يحكى أنّ سياوش بن كيكاوس البطل الإلهيّ الذي يحتلّ مكانةً خاصّةً في كتاب الزّرادشتيّة المقدّس أڤستا بوصفه من عداد الصّدّيقين  قد اتّهمه أبوه في زوجته، ولكي يتمّ التّحقّق من براءته  فقد تمّ إقرار إدخاله في النار، فإنْ خرج سالماً صدُق قوله وإلّا ستحرقه النار،  فيدخل سياوش النار ويخرج منها بلا أدنى أذىً، وهذا المشهد يذكّرنا بحكاية إبراهيم الخليل ودخوله النار حتّى يُعاقب ولتثبت صحّة فكرته عن الله في قومه،  فيخرج منها سالماً، أو قصّة ولادة زرادشت حين أخبر الكهنة الملك بولادة مولودٍ جديدٍ وهو (زرادشت) والذي سيكون سبباً في زوال ملكه، وأشاروا على الملك بإلقائه في النار لإحراقه والتّخلّص منه، لكنّ زرادشت خرج سالما تأكيداً لصدقه ولم يصبه الأذى حيث تلقّفته أمّه سالماً.

إنّ النّار في الزّرادشتيّة والحالة هذه تمثّل حالة صراعٍ بين المقدّس والمدنّس، وهي أيْ النار علامة الطّهر والصّدق، وهي التي تفرّق بين الشّيطانيّ والإلهيّ، والصورة الأوضح لتلك الفكرة رواية ميلاد زرادشت، فبداية خلْقه كانت بنورٍ إلهيّ نزل من السّماء السادسة إلى الشّمس، إلى القمر، ثمّ إلى بيت النار، فأضاءت النّار تلقائيّاً، ثمّ إلى رحم زوجة صاحب بيت النار، فحملت بفتاةٍ هي والدة زرادشت، وحينما ولدت الفتاة كانت تشعّ نوراً، فظنّ أبوها أنّ هذا بفعل الشّيطان، فطردها لتتزوّج من إحدى القبائل المجاورة لتنجب زرادشت، الذي كان يضحك ويتكلّم لحظة ولادته، فخاف أنكرا مايينيو (الشّيطان) على نفسه من هذا الطفل الإلهيّ، ووجّه بعض أتباعه ليضعوه في قدر نارٍ مشتعلةٍ، ثمّ خرج منها سالماً.

ونتيجة هذه القدسيّة والرّمزيّة التي تتمتّع بها النّار، فقد جرى في الزّرادشتيّة الاحتفال بها في مناسباتٍ عديدةٍ، ومن ضمنها الاحتفالات التي تقام سنويّاً في الزّرادشتيّة، احتفال (يلدا- ليلة يلدا) وهي أطول ليلةٍ في السنة، أيْ في ليلة 25/12 من كلّ عامٍ، حيث يعتبر هذا التاريخ أيضاً عيد ميلاد الشمس /ميثرا/ بحيث يتساوى بعدها الليل والنهار، ثمّ يتفوّق النّهار والنّور على الظلمة والليل، ومن أهمّ التّقاليد في هذه الاحتفاليّة إشعال النار حتى يخاف أنكرا مايينيو من ضيائها ولا يمارس سطوته على الشّمس أو النّور ويخفيهما، وتمتدّ الاحتفاليّة حتّى بزوغ الشّمس في الصباح.

وأهمّيّة النّار ورمزيّتها لدى الكرد وأجدادهم تظهر من خلال التّسميات المتعدّدة لديهم للنّار، فتسمّى النار لدى الكرد وأجدادهم بـــ "آر" و"آير" و"آگر" و"آذر" و"آور" و"آهير" و"آهر" وأهورا مزدا في الزّرادشتيّة كإلهٍ للخیر، كما جاء اختيار یوم /21/ آذار العيد القوميّ للشّعب الكرديّ بشكلٍ مرتبطٍ بالنّار وقدسيّتها حين اختارت الإمبراطوريّة الميديّة هذا اليوم رمزاً وطنيّاً ودينيّاً بإشعال النّار المقدّسة في كلّ سنةٍ عرفاناً وشكراً لأهورا مزدا، خالق السّموات والأرض، وإعلاناً ببدء السّنة الجديدة، كتاريخٍ للتّدوين ولتنظيم حياة المجتمع.

يستخدم الكتاب المقدّس للزرادشتية "أڤستا" كلمة "آتر" للدّلالة على النّار والتي أصبحت اسماً لعاصمتهم "آتروباتگان" والتي تحوّلت في العصر الحديث إلى أذربايجان والتي تقع الآن في شرقي كردستان، إنّ "آتروباتگان"  و"آذربايجان" اسمان لهما مدلولٌ ومعنىً واحدٌ والذي يعني موضع النّار الزّرادشتيّ، حيث كانت فيها إحدى مواقد النّار السّبعة المقدّسة والتي كانت تسمّى بـــ "آتر"  أو "آذر"، والمواقد السّتّة الأخرى كانت منتشرةً حينها في بلاد الآريّين، والدّيانة الإيزيديّة تشترك مع الزّرادشتيّة في رباعيّتها الذّهبيّة التي تعتبر العناصر الأربعة طاهرةً ومقدّسةً وهي: النّار والماء والتّربة والهواء، ولا شكّ وعند جدولة هذه العناصر على عدّة مربّعاتٍ ستحتلّ النار المربّع الأوّل؛ لأنّها من أكثر العناصر الأخرى قداسةً في الدّيانة الزّرادشتيّة.. فالنّار إذاً وحسب المعتقد الزّرادشتيّ ترفع الدّنس، وتبعد مصدره الشّيطاني، وتطهّر الكون بأكمله، وتجسّد حالة الصّراع الذي ينتهي غالباً لصالح أهورا مزدا، فالنّار البداية والأصل، ورمز الصّدق، ومطهّرٌ للحياة،  وكذلك هي دلالة النهاية، فتبعاً للزرادشتية  قبل قيام السّاعة بثلاثة أشهرٍ ستنشب حربٌ لا هوادة فيها ما بين أهورا مزدا وأنكرا مايينيو، سينتج عنها أعاصيرُ وأمطارٌ غزيرةٌ، ثمّ تتصاعد النّيران وينتهي العالم بالنّار وتفنى كلّ المخلوقات ويغرق العالم في ظلامٍ كاملٍ لسنواتٍ طوالٍ حتّى تقوم السّاعة والحساب ويعود النّور ثانيةً وبهذا تكون نهاية العالم إلهيّةً وليست شيطانيّةً، ففي المراجع البهلويّة ورد أنّه في يوم الميعاد... سيعبر البشر فوق صراطٍ من نارٍ... الصّالحون لن يشعروا بعذابه... أمّا العصاة المذنبون الذين تركوا عبادة أهورا مزدا وساروا خلف أهريمن سوف يتألّمون حرقاً في النّار حتّى تطهّرهم، ثمّ يذهبون إلى الجنّة.

إنّ تقديس النّار لم يقف عند حدود الدّيانات القديمة ومنها الزّرادشتيّة، بل إنّ الدّيانات التي تبدو بعيدةً عن تقديس النّار بصورةٍ مباشرةٍ غالباً ما نجد النار قائمةً خلف رموز القداسة والألوهيّة، فعند اليهود تجلّى الرّبّ لموسى أول مرّةٍ على هيئة شعلةٍ ناريّةٍ:

 (فساق الغنم إلى البرّيّة وجاء على جبل حوريب، وظهر له ملاك الرّبّ بلهيب نارٍ وسط علّيقةٍ، فنظر وإذا العلّيقة تتوقّد بالنار والعلّيقة لم تكن تحترق، فقال موسى أميلُ الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العلّيقة..؟  فلمّا رأى الرّبّ أنّه مال لينظر، ناداه الرّبّ من وسط العلّيقة وقال: موسى، موسى فقال: هاأنذا، فقال لا تقترب إلى ههنا، اخلعْ حذاءك من رجليكَ؛ لأنّ الموضع الذي أنت واقفٌ عليه أرضٌ مقدّسةٌ)([3]).

وفيما بعد كان حضور يهوه مرتبطاً بالنّار وكانت النّار تشتعل ليلاً فوق الخيمة التي كانت مسكن الرّبّ ومقرّ تابوت العهد:

(وفي يوم إقامة المسكن، غطّت السّحابة المسكن خيمة الشّهادة، وفي المساء كان على المسكن كمنظر نارٍ إلى الصباح.. هكذا كان دائماً السّحابة تغطّيه ومنظر النّار ليلاً)([4]).... (وكان جبل سيناء كلّه يدخّن من أجل أنّ الرّبّ نزل عليه بالنار، وصعد دخانه الأتون وارتجف كلّ الجبل جدّاً، فكان صوت البوق يزداد اشتداداً وموسى يتكلّم والرّبّ يجيبه)([5]).

 وكان بنو إسرائيل كلّما ارتحلوا سار الرّبّ أمامهم وسط عمودٍ من نارٍ ودخانٍ يرشدهم إلى الطريق.

إنّ للنّار قداسةً خاصّةً عند اليهود، حيث نجد أنّ الإسرائيليّين لا يزالون يتّخذون من الشّموع السبعة رمزاً للشّعب اليهوديّ, كما أنّهم يوقدون شموع الأعياد في المناسبات الدّينيّة، وكانت ولا تزال النّار هي إحدى المعالم البارزة داخل هيكل أورشليم.

ولـمّا كانت المسيحيّة امتداداً لليهوديّة، فقد انتقل رمز الشّجرة الملتهبة كـــ تجلٍّ للذّات الإلهيّة، من التّوراة إلى التّقاليد المسيحيّة، التي وجدت في الشّجرة رمزاً للسّيّدة العذراء، وفي النّار المتوقّدة رمزاً للسّيّد المسيح.

 (رأى موسى العلّيقة في جبل حوريب تتوقّد بالنّار وهي لا تحترق، فتحتفظ بين ألسنة اللهيب بنضارة  اخضرارها ورطوبة مادّيّتها. ومريم حبلت وولدت كلمة الله المتأنّس: النّار الملتهبة ومع ذلك لم تثلم البتوليّة ولم تفضّ البكارة، فحافظت في أمومتها على ماهيّة بتوليّتها وجمعت في ذاتها بين ضدّين: شرف الأمومة وسناء البتوليّة.  لقد أدرك موسى في العلّيقة سرّ ولادة العظيم، أيّتها العذراء القدّيسة المنزّهة عن الفساد)([6]).

 هذا ولا تزال وإلى يومنا هذا من المناسبات التي تُشعل فيها النّار المقدّسة في أوروبا عيد الفصح، ففي السبت تُشعِل الكنائسُ الكاثوليكيّة كلّ شموعها المطفأة من شمعةٍ كبيرةٍ وسط الكنيسة، هي شمعة الفصح رمز الأمّ الكبرى مريم، وقد تُشعَل النّار في فناء الكنيسة الخارجيّ ويأتي الناس بأغصانٍ من الزّان أو البلوط يشعلونها من نار الفصح ويأخذونها إلى بيوتهم فيشعلون بها ناراً جديدةً.

أمّا عن النّار في الإسلام وكيف يصفها في الدّنيا والآخرة، وكيف أشار الله إلى النّار في القرآن الكريم، وعن موقعها في الأحاديث الصّحيحة، وعند الأئمة وعن التّسميات التي تسمّى بها في الإسلام، فنجد أنّه قد تمّ ذكر النّار في القرآن الكريم "120" مرّةً، منها "99"  مرّةٍ مع "ألــ" التّعريف و"21" مرّة بصيغة نكرةٍ أيْ من دون "ألــ" التّعريف، وقد جاءت كلمة "جهنّم "77" مرّة ومن أسماء جهنّ الجحيم والسّعير والسّموم وغيرها (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) سورة الحجر الآية /27/، كما ورد أيضاً قوله تعالى (نار الله الموقدة) سورة الهمزة الآية /6/، وفي القرآن سورٌ تحمل أسماءً تدلّ على النّار ومنها مثلاً الشّمس، القمر، النّور، والمعروف أنّ الشّمس عبارةٌ عن حممٍ بركانيّةٍ تتفجّر وتولّد الطاقة الهائلة التي يصل جزءٌ منها إلى الأرض فتعطينا الدّفء والضّوء والحياة، وأيضاً ورد في سورة الطارق الآية/2/ قوله تعالى (وما أدراك ما الطارق النّجم الثّاقب) والمعروف أنّ الطّارق نجمٌ ناريٌّ، وفي سورة الدّخان الآية /10/ قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السّماء بدخانٍ مبينٍ) ومن المعلوم أنّه لا دخان من دون نارٍ، وكذلك الآية /80/ من سورة يس قوله تعالى: (جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون) وسورة طه الآية /10/  قوله تعالى: (إنّي آنست ناراً لعلّي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النّار هدىً) أيْ أبصرت ناراً لعلّي آتيكم منها بقبسٍ أيْ شعلة تساعدنا أو تهدينا إلى الطريق الذي أخطأناها- تفسير الجلالين-  وهذا تأكيدٌ على أنّ النار وسيلةٌ من وسائل الهداية إلى الحقّ وإلى طريق الصّواب ما يشير ضمناً إلى رمزيّة القداسة ونور الهداية، وهناك في القرآن سورٌ أخرى أسماؤها لها علاقة بالنّار أو النّور والنّور مصدره النّار، مثل سورة الفجر والفجر كما هو معروفٌ بداية ظهور ضوء الشّمس (سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر) سورة القدر الآية /5/.

والإشارة الأكثر رمزيّةً إلى النّار وأهمّيّتها في الهداية والخلاص من الضّلال ما جاء في سورة النّور الآية /35/ من القرآن الكريم قوله تعالى: (الله نور السّموات والأرض مَثَلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنّها كوكبٌ درّيٌّ يوقدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكاد زيتُها يضيءُ ولوْ لَمْ تمْسسْه نارٌ نورٌ على نورٍ يَهدي الله لنورهِ من يشاء ويضربُ الله الأمثالَ للناسِ والله بكلّ شيءٍ عليمٌ) أيْ إنّ الله قد أنار السّموات والأرض بنور الشّمس وضوء القمر وأنّ نورهما مثل نوره، وهذا تطابقٌ مع ما قالته الزّرادشتيّة من أنّ نور الشّمس هو تجلٍّ لنور الله، وهذا تقديسٌ رمزيٌّ للنّار من خلال ضوء الشّمس ونور القمر، وقد جاء في تفسير الجلالين في تفسير الآية (كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباح في زجاجةٍ) هي القنديل والمصباح السّراج: أيْ الفتيلة الموقودة والمشكاة الطاقة غير النّافذة أيْ الأنبوبة في القنديل، وأيضاً (الزجاجة كأنّها والنّور فيها كوكبٌ دريٌّ) أيْ مضيء بمعنى الدفع لدفعها الظلام، وكذلك تفسير (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ) أيْ لصفائه (نور به) على نورٍ بالنار ونور الله: أيْ هداه للمؤمن نور على نور الإيمان،  هذا ولا يزال المسلمون يشيرون إلى قداسة النّار بصورةٍ رمزيّةٍ غير مباشرةٍ، عندما يذكرون أولياء الله الصالحين بأنّ وجوههم تشعّ نوراً أو أنّ مزاراتهم تضيء في ظلمة الليالي الحالكة، هذا ومن كلّ ما سبق ذكره عن مكانة النار وقدسيّتها ورمزيّتها في معظم الدّيانات، القديمة منها والإبراهيميّة، إنّما تظهر حقيقة من الحقائق التي يجب أنْ لا تغيب عن ذاكرة الإنسان والقارئ بصورةٍ خاصّةٍ بأنّ هذا العنصر الهامّ والحيويّ في حياة الإنسان منذ أنْ وعى على وجه الأرض إنّما هو من الحقائق التي اعتمدتها معظم هذه الدّيانات، فلا حياة ولا وجود لأيّ كائنٍ ولا كان من الممكن أنْ تكون من دون الحرارة والضوء التي هي من النّار كمصدرٍ أساسيٍّ لكلّ نورٍ، وإنْ كانت تلك الدّيانات قد اقتربت من مسألة النّار بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وهذا يظهر حقيقةً أخرى هي أنّ لا أساس من النّاحية العلميّة والدّينيّة والرّوحيّة في اتّهام هذا المعتقد- الزّرادشتيّة والإيزيديّة- من دون الدّيانات الأخرى في أنّهم من عبدة النّار وأنّ الآخرين لا علاقة لهم بمسألة العبادة والتّقديس للنّار، وأنّ هذا الاتّهام إنّما هو مبنيٌّ على أغراضٍ تتعلّق بجنسيّة زرادشت وقيمه الإنسانيّة،  التي يجدون فيها نسفاً لكلّ ما ينسبون لأنفسهم من قيمٍ ومبادئَ هي بالأساس مأخوذةٌ من المعتقد الزّرادشتيّ أو الإيزيديّ.

 



[1])) ربّما كانت هذه التّسمية هي أصل "البس" أو "البسونة" الذي يطلق على القطّة أو الهرّة في كثيرٍ من اللهجات العربيّة المحكيّة اليوم، كما تلفظ أيضاً في بعض اللهجات الكرديّة بــ "بسيك".

[2])) أبو العباس أحمد القلقشنديّ، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، دار الكتاب اللبنانيّ للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980، ص 462- 463

[3])) العهد القديم، سفر الخروج، الإصحاح الثالث، الآية: 1– 5.

[4])) العهد القديم، سفر العدد، الإصحاح التاسع، الآية 15– 16.

[5])) العهد القديم، سفر الخروج الإصحاح التاسع عشر، الآية 18– 19.

[6])) الأب متريهاجي أثناسيو، الموسوعة المريميّة، ص 25.

قدسيّة النّار ورمزيّتها -نايف جبيرو Reviewed by Yekîtiya Nivîskarên Kurdistana Sûriya on سبتمبر 06, 2024 Rating: 5   قدسيّة النّار ورمزيّتها -نايف جبيرو Pênûsa Azad-H-18 يقال : عندما اكتشف الإنسان النّار تديّنَ. لم يكن تعامل الإنسان مع النّار منذ الأ...

ليست هناك تعليقات: