الكرد والاعتقال السياسي في سورية (1920-2017)
القسم الثاني
الكاتب: عمر رسول
الاعتقالات السياسية في
ظل سلطة البعث (1963حتى 2011)
يمكن القول إن عهد البعث كان أسوأ
وأخطر العهود التي مرت على سوريا بعد الانفصال. فمنذ صعوده إلى السلطة في 8 آذار
1963، انتهج سياسة معادية للكرد، يستند في ذلك على وضع مخططات استراتيجية مغلّفة
بالكثير من الحقد والكراهية السوداء، والاقدام على تنفيذها أمنياً وحكومياً عبر
كافة أجهزة الدولة كنوع من الموت البطيء للعنصر الكردي أو ما يمكن تسميته بالتطهير
العرقي الصامت في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية.
لقد التزم البعث عقائدياً بنهج محمد
طلب هلال المدمّر ومشروعه المقترح لتصفية القضية الكردية في سوريا. لم يعترف البعث
يوماً بالكرد أو بوجود مسألة قومية كردية في سوريا تحتاج إلى حل في إطار وطني
ديمقراطي، بل على العكس من ذلك كان يعتبر الكرد “دخلاء” و”مهاجرين” وصنيعة
الاستعمار والصهيونية”، لذا أطلق البعث العنان لمخططاته الأمنية للتعامل مع الملف
الكردي. “وساد المناطق الكردية الإرهاب البوليسي الأسود، حيث كانت السيارات تجوب
القرى الكردية في أوقات متأخرة من الليل، لملاحقة الوطنيين الكرد، وبث الذعر والخوف
من خلال مداهماتهم المفاجئة”[59]، تمهيداً لتنفيذ
مخططاته ومشاريعه بحق الشعب الكردي من دون مقاومة.
لم يبق البارتي الديمقراطي الكردي
صامتاً إزاء هذه الممارسات بل راح يشجب هذه السياسة بشدة في جريدته “دنكى كرد”
(صوت الكرد) في العدد الصادر في تموز عام 1963 [60]، بل وقاد طلاب الصف التاسع في إعدادية أبو علاء المعري في
عامودا مظاهرة في ربيع عام 1963 ضد الممارسات القمعية البوليسية للنظام البعثي.
على أثرها عقد مجلس قيادة الثورة بدمشق اجتماعاً طارئاً برئاسة أمين الحافظ واتخذ
قراراً بإرسال عدد من قوات اليرموك المتواجدة بالقامشلي إلى عامودا، وعلى أن يحقق
رئيس الأمن السياسي بالقامشلي الملازم أول محمد الخطيب مع الطلاب بنفسه، لهذا جلب
الطلاب إلى مخفر عامودا وباشرت عناصر الشرطة بضربهم وتعذيبهم، وأهالي الطلاب
مجتمعون على الجسر ينتظرون ماذا سيحصل وسط صيحات وصرخات أبنائهم وهم يتعذبون بشدة،
ومع غروب الشمس تم اعتقال غالبية طلاب الصف التاسع وسوقهم إلى زنزانات وأقبية
المخابرات في القامشلي لاستكمال التعذيب والتحقيق. ولولا تدخل مدير المدرسة عدنان
الزعيم، كان من الإخوان ومنفياً إلى المنطقة الكردية، لدى ابن خالته قائد المنطقة
العسكرية بالقامشلي ببذل أقصى جهوده لمنع تنفيذ العملية العسكرية المقررة بحق
أبناء عامودا، وهذا ما حصل ونجت عامودا من مذبحة كان يدبرها النظام السوري البعثي
ضد الكرد في عامودا[61].
لقد استمر نظام البعث في فرض المزيد
من الإجراءات الأمنية على الصعيدين الحزبي والشعبي استمراراً في نهجه المعادي
للوجود الكردي. ففي الوقت الذي كانت قيادة البارتي منهمكة لعقد مؤتمره عام 1964،
“شن الأمن السياسي في 21/5/1964حملة اعتقالات ثانية على قيادة
البارتي، واعتقلت أعضاء المكتب السياسي للحزب وأعضاء اللجنة المركزية والمنطقية
والفرعية، وتمكن البعض من التواري عن الأنظار والاختفاء، بذا أصبح كل الأعضاء
معتقلين أو ملاحقين ثانية”[62].
وقد ظل المعتقلون في السجن أكثر من
سبعة أشهر، حيث أطلق سراحهم مع بداية العام الجديد 1965[63].
انقلاب 23 شباط 1966
واعتقالات الكرد
في صراع بين جناحي البعث، بين القيادة
القطرية والقيادة القومية، وتحت شعار ابعاد الجناح اليمني عن قيادة الحزب، أطاح
صلاح جديد بانقلاب عسكري دموي في فجر 23 شباط 1966 بأنصار ميشيل عفلق
وأمين الحافظ وصلاح بيطار وغيرهم من القيادة القومية اليمينية. و”تم ابعاد حوالي
أربعمائة ضابط وموظف من سلكي الجيش والحزب، واقتيد أمين الحافظ ومحمد عمران
والقادة الموالون إلى سجن المزة. وقد عين الدكتور نورالدين الأتاسي رئيساً
للجمهورية، ويوسف زعين رئيساً لمجلس الوزراء، وإبراهيم ماخوس وزيراً للخارجية،
وحافظ الأسد الذي وقف مع جديد ضد عمران وزيراً للدفاع”[64].
لم يتبدل موقف الحكم الجديد من القضية
الكردية في سوريا، بل راح يشدد قبضته على الكرد، والقيام بمزيد من الإجراءات التي
تخلخل بنية المجتمع السوري، حيث أقدم قادة الحكم الجديد، التيار اليساري المزعوم
في البعث، على تنفيذ مخطط محمد طلب هلال تحت يافطة الاشتراكية لإنهاء الوجود
الكردي في سوريا، وقد بدأوا بالخطوات التمهيدية لتنفيذ مشروع الحزام العربي على
أرض الواقع. ففي حزيران عام 1966، أبلغ مدراء نواحي ورؤساء المخافر الشرطة
الفلاحين الكرد على امتداد الحدود مع تركيا، لمغادرة مناطقهم واختيار مكان جديد
للعيش في المناطق الجنوبية ذات الطابع العربي، لذلك اعتبرت المنطقة منطقة أمنية
وراحت الدوريات تجوب المنطقة وتبلغ أهالي القرى للضغط عليها لترك أراضيها حتى
تستولي عليها الدولة، وتتصرف بها.
وفي يومي 20 و21 آب عام 1966 قامت
السلطات بحملة اعتقالات كانت الأوسع في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا
والثانية من حيث الترتيب بعد “اعتقالات عام 1960 والتي تركزت أساساً
في منطقة الجزيرة”[65].
شملت معظم الفئات والطبقات الاجتماعية
للشعب الكردي في كافة مناطق الجزيرة “ديريك، قامشلو، عامودا، درباسية، حسكة، وسرى
كانيى”[66].
حيث “بقي منهم في المرحلة الأخيرة نحو
56 شخصاً في سجن غويران بالحسكة”[67].
وفي بداية عام 1967 باشرت السلطات
السورية بتنفيذ المرحلة الثانية من الحزام العربي بالهجوم المسلح وبث الرعب
والإرهاب بين السكان الكرد واعتقال العديد من الفلاحين بسبب رفضهم المغادرة
وتمسكهم بأراضيهم، في أعقاب هزيمة سوريا في حرب الخامس من حزيران عام 1967. حينذاك
شهدت العشرات من القرى الكردية مواجهات دامية مع قوات الشرطة والأمن المجهزة
بالأعتدة والمدعومة بقوات الهجانة، رافضين الهجرة القسرية من أراضيهم، فقد عمت هبة
جماهيرية من قرية علي فرو غربي القامشلي وحتى نهر الجراح شرقاً واعتقل المئات من الفلاحين
الكرد، وتعرضوا إلى التعذيب والإهانة نتيجة لمواقفهم.[68]
وهكذا تحدى سكان قرية علي فرو
المخابرات وشرطة المنطقة، وجلسوا أمام المصفحات والآليات العسكرية السورية، وقالوا
“اسحقونا واقتلونا، ولكن لن نخرج من ديارنا، فاعتقلت السلطات السورية أكثر من
مائتي كردي من تلك القرية الصامدة وكان معظمهم من النساء والأطفال وساقوهم إلى سجن
الحسكة والدماء تسيل منهم من شدة الضرب بأعقاب البنادق…”[69]
لقد وجدت هذه الحادثة صداها في
الصحافة الأجنبية في حينها، لقد كتبت صحيفة لوموند عن الحادثة في أيار 1967، كما
أن الصحفي الفرنسي جان بيير رينو الذي زار محافظة الحسكة عام 1972، تحدث عن ذلك في
مقالة. كما أن جريدة Evening
Standard اللندنية الصادرة في 14 كانون الأول
1967 كتبت قائلة: “وصلت تقارير إلى لندن عن اضطراب واسع مع اندلاع عنف مسلح في
المنطقة ذات الأغلبية الكردية على الحدود مع تركيا، الاضطرابات وقعت نتيجة سياسة
الحكومة السورية لتذويب النفوذ الكردي في الشمال بواسطة محاولة التهجير القسري للسكان
الكرد، ولمنطقتهم أهمية بسبب وجود آبار النفط”[70].
وقد جاءت هذه الاعتقالات بعد أن باشرت
القيادة الجديدة لحزب البعث بتطبيق المشاريع العنصرية، وفقاً لخطة محمد طلب هلال
“وكانت اعتقالات احترازية تخوفاً من تنامي روح المقاومة لمخطط “الحزام العربي”،
والخروج من تحت السيطرة، بعد قرار التصدي في مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردي
اليساري”[71].
وقد توجه الزعيم مصطفى البارزاني
برسالة إلى الرئيس السوري آنذاك د. نورالدين أتاسي يطالبه بإطلاق السجناء
السياسيين الكرد وتخفيف معاناتهم. في الوقت الذي كانت الصحف التابعة للحزب
الديمقراطي الكردستاني-في العراق، “خبات” و”التآخي”، وإذاعة صوت كردستان
العراق، تغطي أخبار الكرد في سوريا. وتحت عنوان “رسالة من سوريا” كتبت
مجلة (كردستان) الصادرة عن جمعية الطلبة الكرد في أوروبا جاء فيها: “في يوم 21 آب
من عام 1966، كان قد اعتقل 150 شخصاً من الكرد من مختلف فئات الشعب، حيث تم سجنهم
وتعذيبهم لأكثر من تسعة أشهر دون محاكمة أو توجيه تهمة إليهم”[72].
وقضى السجناء فترة اعتقالهم في سجن
غويران بالحسكة.
فيما يتعلق بالأراضي المستهدفة، فقد
تبنى المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث في أيلول 1966هذه الخطوة رسمياً، وقد جاء
في الفقرة الخامسة من توصياته ما نصه: “إعادة النظر بملكية الأراضي الواقعة على
الحدود السورية التركية، وعلى امتداد 350 كم وبعمق 10-15 كم، واعتبارها ملكاً
للدولة، وتطبق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة”[73].
المرحلة الثانية من التعريب واعتقالات 1973
استكمالاً للمرحلة الأولى من التعريب،
والنهج المعادي للوجود الكردي في سوريا قومياً واجتماعياً، أكد المؤتمر القطري
الخامس لحزب البعث في أيار 1971 على الاستمرار في تطبيق هذه السياسة.
لذا فقد تم تشكيل الأداة والمرحلة التنفيذية لسياسة التعريب والتهجير ضد الكرد
للمرحلة الثانية في ظل حكم حافظ الأسد، في الوقت الذي كان الكرد يتطلعون إلى وقف
هذه السياسات الظالمة بحقه من الرئيس الجديد، والبدء بتأسيس مرحلة مختلفة مع الكرد
والاعتراف بوجودهم دستورياً انطلاقاً من الأسس الوطنية، ولكن هذا لم يتم أبداً.
لقد كان كل من مشروعي الحزام والاحصاء يشكلان وجهان لنهج تدميري واحد، “وكانا
يسيران في خطين متوازيين ويفعلان فعليهما في تحطيم بنية المجتمع الكردي الريفي
وتفتيته”[74].
وقبل البدء بتنفيذ مشروع الحزام
العربي (الحزام الأخضر في الوثائق الرسمية) بأقل الخسائر الممكنة، جرى التمهيد له
بحذر شديد أمنياً وسياسياً. لقد قامت الأجهزة الأمنية بدعم وتغطية من قيادة
الجبهة الوطنية “بخلخلة الجبهة الكردية المقاومة
لمشروع الحزام، إذ تم اعتقال قيادات كردية من الحزبيين المعارضين للمشروع وخاصة من
الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) في 29/7/1973 وهم: دهام ميرو (سكرتير الحزب)،
كنعان عكيد، محمد نذير مصطفى، محمد أمين شيخ كلين هوري، خالد مشايخ، محمد فخري،
عبدالله ملا علي، ولاحقاً حميد حسين سينو الذي تم اعتقاله في عام 1977. وقد أمضوا
أكثر من ثمانية سنوات في سجون النظام، وهي أطول فترة سجن لقادة وساسة كرد في تاريخ
سورية”[75]، حتى ذلك الحين.
فضلاً عن اعتقال المئات من القرويين الرافضين للمشروع. بعد ذلك “بدأت عمليات
الترحيل في خريف عام 1974 وانتهت جميع عمليات التوطين في ربيع عام 1975”[76].
رغم أن الكثير من المرحّلين العرب
الذين أجبروا على المجيء إلى المناطق الكردية، لم يكونوا يرغبون بالمجيء وترك
مواطنهم الأصلية في الرقة ومحيطها وغيرها من المناطق.
يمكن للمرء أن يفهم حتى الآن الهدف من
وراء هذه الاعتقالات حيث هناك سلطة استبدادية لها مخطط يستهدف وجود شعب، وهناك
بالمقابل رفض من هذا الشعب لهذا المخطط. ولكن مالا يمكن فهمه بأي منطقٍ هو أن
يُعتقل الكردي لأنه أطلق بشكل جماعي الشعارات التي كانت تتبجح بها تلك السلطة
آنذاك، ولكن إضافة كلمة كردي إلى الشعارات كانت كافية لزجّهم في السجون والمعتقلات.
ففي صبيحة الثامن من آذار عام 1970،
وخلال المهرجان الخطابي في سينما دمشق بالقامشلي، بمناسبة استلام البعث للسلطة،
حضر عدد من طلبة الثانوية من الصف الحادي عشر والثاني عشر من مدرستي عربستان
والعروبة بالقامشلي وكلهم أعضاء في الحزب اليساري الكردي، وقاموا بترديد الهتافات
التالية:
- عاشت
الأخوة العربية الكردية.
- على
صخرة الأخوة العربية –الكردية تتحطم مؤامرات الاستعمار والصهيونية.
- عاشت
نضال المرأة العربية –الكردية،…الخ.
وفي اليوم التالي تم استدعاء هؤلاء
الطلاب من مدارسهم من قبل شعبة الأمن السياسي بالقامشلي التي كان يرأسها آنذاك
ضابط أمني باسم فريد شهلا. وقد تعرّض الطلاب لأبشع أنواع التعذيب على أيدي عناصره،
وتم توقيفهم (37) يوماً في القامشلي، ومن ثم تحويلهم إلى المحكمة العسكرية
بالقامشلي، ومن ثم إلى المحكمة العسكرية بدير الزور للتحقيق أمام قاضي الفرد
العسكري، حيث تم سجنهم لأكثر من عام في سجن القلعة المركزي بدمشق بتهمة ايقاظ
النعرات العنصرية وفق المادة (285) من قانون العقوبات العام.[77]
هكذا كانت السلطة تمارس الإرهاب
الأمني وتحفر بعمق الهوة بين المكونات السورية باسم القانون والعروبة والاشتراكية!
الكرد
واعتقالات 1987
إنّ الممارسات الأمنية الممنهجة ضد
الحركة السياسية الكردية أضعفت كثيراً تلك الحركة مما فقدت مصداقيتها لدى الجماهير
الكردية وخاصة فئة الشباب منها. وإن أكثر ما تميز به البعث في ظل سلطة الأسد الأب
هو قدرة الأجهزة الأمنية على إفراغ الحركة الكردية من مضمونها الثوري المقاوم،
ودفعها نحو الخلافات والانشقاقات التي لا تعدّ ولا تحصى، ولا تعبّر معظمها عن أي
خلاف جوهري في أساليب النضال أو الأهداف السياسية المرحلية أو الاستراتيجية.
في ظل انحسار نفوذ الأحزاب الكردية
عموماً، ظهر على الساحة السورية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينات “حزب العمل
الشيوعي” المعروف باسم “الرابطة” في الأوساط الشعبية. وكان
الحزب يتبنى اسقاط السلطة في البداية، ولكن حينما تحول من الرابطة إلى الحزب في
المؤتمر الأول في بيروت عام 1981، بعد أحداث حماة، تبنى شعار دحر الدكتاتورية
بدلاً من اسقاط السلطة. وكان للحزب المذكور رؤية مختلفة للقضية الكردية عن الأحزاب
الشيوعية الكلاسيكية. لقد طرح قضية حق تقرير المصير للكرد
للنقاش في أواسط الثمانينيات قبل المؤتمر الثاني الذي لم ينعقد بسبب الاعتقالات
والمداهمات الأمنية المتواصلة في صفوف قيادته. وكانت هذه أول مرة يطرح حزب شيوعي
شعاراً من هذا النوع وسط بحرٍ من الشوفينية العربية، الأمر الذي لفت أنظار الكرد
إليه، وخاصة الفئة الشبابية. ولكن قبل أن يتمكن الحزب من إنشاء تنظيم له في الوسط
الكردي بدأت المداهمات والاعتقالات التي طالت أعضاء الحزب ووسطه، وكان ذلك في
الشهر التاسع من عام 1987، أثناء دورة المتوسط للألعاب الرياضية في اللاذقية. ثم
امتدت الاعتقالات وطالت الوسط الكردي أيضاً في شهر ديسمبر/
كانون الأول من العام نفسه، فقد اعتقل
أكثر من 40 شخصاً، من قامشلي وعامودا وديريك بشكل أساسي. وكانت هذه أول اعتقالات
سياسية جماعية في الوسط الكردي بعد اعتقال قيادة الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا
في 1973. قام فرع المخابرات العسكرية في القامشلي والفروع التابعة له بهذه
الاعتقالات في الفترة التي كان يرأسه محمد منصورة. تم إحالتهم إلى فرع فلسطين ومن
ثم إلى فرع التحقيق العسكري وبعد ذلك إلى سجن صيدنايا العسكري الأول. أطلق سراح
البعض من الفروع، ولكن وصل 28 شخصاً إلى السجن المذكور، وبقي 4 أشخاص في فرع
فلسطين، ولم يكن من بين كل هؤلاء إلا شخص واحد فقط منتمٍ إلى الحزب، أما الآخرون
فلم يكن لهم أية علاقة تنظيمية به. لقد اتبعت الأجهزة الأمنية نظرية السمكة والماء
في هذه الحملة على خلاف الحملات السابقة بحق الحزب المذكور، أرادوا تجفيف الماء
حتى يكون اصطياد السمكة محتوماً، أي أنهم ركّزوا في هذه الحملة على الوسط الحزبي،
أو البيئة الحاضنة، وليس الأعضاء فقط، وضربه بقوة. وبالرغم من هذه الحقيقة، فقد
احتفظت بهم السلطات كغيرهم واحيلوا إلى المحاكم بعد ثلاث سنوات ونصف السنة وامتدت
المحاكم ثلاث سنوات حتى اتخذت محكمة أمن الدولة العليا في دمشق أحكاماً في غاية
القساوة بحقهم. تراوحت أحكامهم بين 6 سنوات و12 سنة مع
التجريد من الحقوق المدنية لمدة سبع سنوات بعد انتهاء الحكم. أما الأربعة الذين
بقوا في الفروع فلم يقدّموا إلى المحاكمات، وأطلق سراحهم بعد أربع سنوات. وكانت
التهم الموجهة إلى المعتقلين في هذه الحملة، هي: الانتساب إلى جمعية سرية تستهدف
قلب النظام السياسي، ومعاداة أهداف الثورة، ومعاداة تطبيق الاشتراكية في البلد!
ومنذ تلك اللحظة أعادت السلطات
الأمنية حساباتها، وبدأت تنتهج سياسة أكثر ليونة مع الأحزاب الكردية، بل وحتى سمحت
لها القيام بالاعتصامات والمظاهرات في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وذلك
حتى تعيد الحيوية المطلوبة أمنياً، إن جاز التعبير، لهذه الأطر الكردية لاستيعاب
القشرة السياسية القومية المتحركة في المجتمع الكردي مرة أخرى، طالما أنها تحت
القبضة الأمنية ولن تستطيع أن تسجّل أي خرقٍ خطيرٍ في جدار السلطة الاستبدادية،
وذلك بعدما أدركت خطأها في الضغط المفرط على تلك الأحزاب وإفراغها من مضمونها،
وكانت النتيجة هي أنّ الشباب الكرد بدأوا بالبحث عن بدائل وطنية مركزية راديكالية،
وهذا ما كان يرعب النظام، لا سيما حزباً يطرح شعار دحر الدكتاتورية، لهذا السب
أرخى الحبل قليلاً مرة أخرى للأحزاب الكردية السورية لتنظّم الكرد في صفوفها من
جهة، ولحزب العمال الكردستاني الذي أعلن الكفاح المسلح عام 1984 ضد تركيا، للقيام
بالدور نفسه من جهة أخرى. وكان النظام يفضّل الأخير على الأولى طالما أن مجمل
نشاطه هو باتجاه ساحة أخرى-تركيا، لهذا السبب تغاضى الطرف عن نشاطاته السياسية
والتنظيمية في الساحة السورية في تلك المرحلة، ومع ذلك كان كل تحركاته تحت
المراقبة والقبضة الأمنية المشدّدة، ويُعتقل الكثير من أعضائه بين حين وآخر لأسباب
مختلفة، ولم تفرغ السجون منهم أبداً، ففي بداية التسعينيات كان يوجد أكثر من 30
معتقلاً من الحزب المذكور في سجن صيدنايا العسكري فقط، وكان هناك الكثير من معتقلي
هذا الحزب في السجون الأخرى أيضاً، هذا بالرغم من التحالف الظاهري بين النظام
والحزب المذكور.
قضية
الملصقات واعتقالات 1992
في عشية الخامس من تشرين الأول عام
1992، وفي إطار تفعيل الحراك الكردي في سوريا، وإعادة ثقة الجماهير بحركتها
السياسية، قام حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)، الذي كان قد تشكّل
مؤخّراً من عدة مجموعات حزبية، بنشاطٍ بمناسبة الذكرى السنوية للإحصاء الاستثنائي
الذي جرد بموجبه أكثر من 120 ألفاً من جنسيتهم السورية، والذي جرى في 5 تشرين الأول
عام 1962 في محافظة الحسكة في إطار السياسات الهادفة للقضاء على الوجود الكردي في
سوريا. وكان النشاط هو عبارة عن إلصاق البيان الصادر بتلك المناسبة في أماكن
مختلفة في كل المناطق الكردية وفي مدينتي حلب ودمشق أيضاً، لكن لم ينفذ النشاط في
دمشق لأسباب داخلية، وعرف ذاك النشاط بـ”قضية الملصقات” في الأدبيات الحزبية
الكردية. وبهذا الصدد يقول القيادي نواف رشيد في حزب يكيتي الكردي الذي كان جزءاً
من حزب الوحدة الديمقراطي آنذاك، بأن الحزب قام بهذا النشاط لسببين أساسيين:
“أولاً، إعادة اللحمة بين أعضاء الحزب الذي تشكل من تيارات عدة، وثانياً، إعادة
ثقة الجماهير بحركتها السياسية”[78].
وكان هذا أول نشاط من نوعه في أوساط
الحركة الكردية منذ السبعينيات.
على إثر ذلك بدأت الأجهزة الأمنية،
الأمن السياسي، وأمن الدولة في القامشلي وفروعهما في باقي المدن، بحملة اعتقالات
واسعة في محافظة الحسكة، شملت الحسكة ورأس العين والدرباسية وعامودا، والقامشلي،
وديريك، وحلب والمناطق الكردية الأخرى، وقد تم توقيف أكثر من مائة شخص في هذه
الحملة. أطلق سراح معظمهم بعد التحقيقات في
الفروع، وأحيل 17 شخصاً إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، وقد وزع السجناء بين
سجن عدرا وسجن صيدنايا. وكانت أحكام الذين كانوا في سجن عدرا سنة ونصف السنة، أما
الذين كانوا في سجن صيدنا ثلاث سنوات![79]
وكانت التهمة الموجهة إليهم هي: ”
الانتماء إلى جمعية سرية ومحاولة اقتطاع جزء من الأراضي السورية لضمها إلى دولة
أجنبية” وفقاً للمادة 267 عقوبات عام (ع.ع)، وجدير بالذكر أن معظم المواطنين
الأكراد الذي يعتقلون ويحالون إلى محكمة أمن الدولة، يحاكمون وفق هذه المادة مهما
كانت انتماءاتهم السياسية وبغض النظر إذا ما كان لهم مثل هذه الانتماءات أم لا[80].
اعتصام
الأطفال الكرد أمام مقرّ اليونيسيف في 2003 والاعتقالات
قامت مجموعة من الأحزاب الكردية
بتنظيم اعتصام مؤلف من 200 طفل من الأطفال المجردين من الجنسية (أجانب الحسكة)
أمام مقرّ اليونيسيف في دمشق في 25/6/ 2003 للمطالبة بإعادة الجنسية السورية
إليهم، واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في البلاد حتى يتمكنوا من التعليم بلغتهم
الأم.
وعلى إثر المشاركة في هذا الاعتصام
السلمي اعتقل سبعة اشخاص في اليوم ذاته وهم: خالد أحمد علي، عامر مراد، محمد شريف
رمضان، محمد مصطفى، سالار صالح، هوزان محمد أمين، حسين رمضان، واعتقل مسعود حامد
فيما بعد بتاريخ 24/7/2003 بسبب التقاطه صوراً لتظاهرة الأطفال
الكرد في دمشق، اعتقل من قاعة الامتحان من قبل فرع الأمن السياسي، وأحيل إلى محكمة
أمن الدولة العليا وحكم كزملائه وفقاً للمادة 267 ع.ع سابقة الذكر.
وكانت الأحكام كالشكل التالي: 4 أشخاص
حكموا بسنة واحدة من السجن، و3 أشخاص حكموا بسنتين، وشخص واحد بثلاث سنوات[81].
وفي دراسة احصائية تتعلق بملف
المعتقلين الكرد نشرها صلاح بدرالدين في أواخر عهد الأسد في جريدة “الاتحاد”، لسان
حال منظمة الحزب آنذاك في الخارج، مستنداً إلى معلومات دقيقة حسب قوله، بأنّه قد
توصّل إلى نتائج مذهلة حيث بلغ عدد المعتقلين الكرد الذين تراوحت أحكامهم بين شهرٍ
و 13سنة في سنوات حكمه لأسباب سياسية قومية 17000 معتقلاً، وعدد الذين استجوبوا
لدى دوائر الأمن 21000 معتقلاً، والذين جردوا من الحقوق المدنية 51000 معتقلاً.[82]
أحداث
12 آذار 2004 وحملة الاعتقالات
بعد سقوط نظام صدام حسين وانتهاء حقبة
البعث في العراق في 9 نيسان 2003 على يد القوات الأمريكية والبريطانية، كانت هناك
أحداث كبيرة تتفاعل في المنطقة وبشكل أساسي في العراق المجاور لسوريا. لقد كان
إقليم كردستان العراق يتكون شيئاً فشيئاً بالمعنى السياسي وتتبلور فيه السلطة
السياسية الكردية مع وجود برلمان منتخب فضلاً عن حكومة ورئيس للإقليم. بالإضافة
إلى هذا كان رائحة مشروع الشرق الأوسط الكبير تتصاعد في كل مكان في المنطقة،
فاستشعرت الأنظمة الاستبدادية الرّعب في الشرق الأوسط، وخاصة بعد سقوط نظام البعث
في العراق، لذا حظي المشروع باهتمام كبير في الأوساط السياسية والحكومية وفي
اجتماعات القمم العربية وغيرها من الاجتماعات. كما أنه أصبح لازمةً لكل النشرات
الإخبارية والبرامج السياسية التحليلية في معظم القنوات العربية آنذاك. وكان
المشروع الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يشمل منطقة واسعة تضم
كامل البلدان العربية إضافة إلى تركيا، وإسرائيل، وإيران، وأفغانستان وباكستان،
وذلك في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي،
حسب تعبيرها، في المنطقة.
أُعلِن عن نص المشروع في شهر
آذار/مارس 2004 بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثماني
ليتم مناقشته في قمة حزيران/يونيو في الولايات المتحدة في العام نفسه.
كانت سوريا من بين الدول العربية إلى
جانب لبنان ومصر والسعودية ترفض هذا المشروع جملة وتفصيلاً، ولكن بدلاً من
الالتفات إلى الداخل والبدء بجرأة بحركة إصلاحات استباقية فعلية وعميقة في كافة
الميادين لقطع الطريق على التدخلات الخارجية مهما صغرت، فعلى العكس من ذلك، سارت
السلطة السورية في الطريق الخاطئ، واعتبرت سلفاً إنّ الكرد في سوريا مرشحون كشعب
مضطهد ومحروم من حقوقه أن يلعبوا دوراً ما في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير،
وبالتالي، أن يكونوا رأس الحربة في التغيير في سوريا وخاصة بعد المكتسبات التي
حققها الكرد في كردستان العراق. لذا سرعان ما بحثت السلطة عن أداة لجرّ الكرد إلى
معركة قبل الأوان، وكانت الأداة هي استغلال مباراة كرة القدم بين فريق القامشلي
“جهاد” وفريق دير الزور “الفتوة” على أرض ملعب القامشلي في 12 آذار 2004.
لقد بدأت الشرارة الأولى من الملعب
بين جمهور الفريقين، ظاهرياً، ولكن كانت القضية أعمق بكثير من مجرد شغب في الملعب،
وراحت الأمور تسير، فيما بعد، وفق خطة مدروسة لمسرحية ذات فصول متعددة، وكل الهدف
هو دفع بعض مؤيدي نظام البعث في العراق القادمين من دير الزور كمشجعين لفريق
الفتوة في القامشلي، أولئك الذين أصابهم اليأس والاحباط بعد سقوط نظام صدام حسين،
للاصطدام بالكرد ومواجهتهم في سوريا، وبدعم مسلح من السلطات، انتقاماً من كرد
العراق، وكسر إرادتهم قبل أي خطوة ملموسة على طريق الشرق الأوسط الكبير.
بهذه اللعبة الخطيرة بكافة المعايير
من جانب النظام، فلتت زمام الأمور من يد السلطات والأجهزة الأمنية على حد سواء،
ومن يد الأحزاب الكردية أيضاً. لقد تحولت “الفتنة –المؤامرة”، بتعبير أحد
السياسيين، إلى انتفاضة عارمة امتدت كالنار في الهشيم إلى كل المناطق الكردية وإلى
حلب ودمشق أيضاً. لقد وحدّت “المؤامرة” الكرد في كل مكان بامتياز، حتى أن كرد
الدياسبورا قد احتلوا السفارات السورية في بعض الدول الأوربية احتجاجاً على
الأساليب القمعية التي اتبعتها السلطات في مواجهة الكرد.
لقد استخدمت السلطات الرصاص الحي
بقرار من محافظ الحسكة “سليم كبول” ضد المدنيين الكرد الذين تتراوح أعمارهم بين
عشر سنوات إلى ستين سنة، وبناءً على ذلك ردّت “السلطات السورية على الاحتجاجات
باستخدام القوة المميتة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 36 شخصاً وإصابة أكثر من
160 واعتقلت أكثر من [83]2000 شخص،
وسط تقارير واسعة النطاق عن التعذيب وإساءة معاملة المعتقلين. أُفرِج عن معظم
المعتقلين في نهاية المطاف، بما في ذلك الـ 312 سجيناً الذين أُفرج عنهم بموجب عفو
رئاسي أصدره الأسد في 30 مارس/آذار [84]2005″.
نوروز
2008 واستشهاد المحمدون الثلاث
استكمالاً لأحداث آذار 2004 وللنهج
الدموي الذي أصبح اعتيادياً لدى الأجهزة الأمنية في مواجهة الكرد، قامت السلطات
الأمنية عشية نوروز 2008 في القامشلي، بإطلاق النار عشوائياً على مجموعة من الشبان
كانوا يشعلون الشموع احتفاء بقدوم رأس السنة الكردية “نوروز” الذي يصادف في 21
آذار من كل عام، مما أدى إلى استشهاد ثلاثة شبان وجرح خمسة آخرين، وهم: محمد[85] محمود حسين
(18 عاماً)، ومحمد زكي رمضان (25 عاماً)، ومحمد يحيى خليل (36 عاماً). كما جرح 5
آخرون، وهم: رياض حسين، وكرم إبراهيم اليوسف، ورياض يوسف شيخي، ومحي الدين جميل
عيسى، ومحمد خير عيسى. وكان جروح بعضهم خطيرة[86].
نوروز
الرقة 2010 والاعتقالات
منذ توقيع اتفاقية أضنة الأمنية بين
كل من سوريا وتركيا في مدينة أضنة التركية في يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، بدأ
النظام السوري إحكام قبضته على حزب العمال الكردستاني، واضطر إلى إخراج عبدالله
أوجلان من سوريا، بتهديد تركي بالاجتياح، وفيما بعد إحكام القبضة الأمنية على حزب
الاتحاد الديمقراطي فرع العمال الكردستاني في سوريا، بعد تأسيسه في عام 2003.
لهذا كانت الأجهزة الأمنية السورية قد
وضعت كافة أشكال الحظر على نشاطات هذا الحزب منذ ذلك الحين. ومع ذلك كان الحزب
يحاول أن يبلور وجود السياسي بين الكرد في سوريا مستغلاً كل المناسبات القومية،
وعلى رأس هذه المناسبات عيد نوروز.
في هذا المسعى كان حزب الاتحاد
الديمقراطي يستعد للقيام باحتفال نوروز 2010
في محافظة الرقة، حيث توجد جالية
كردية كبيرة، ولكن كانت الأجهزة الأمنية والمتعاونين معها بالمرصاد، سرعان ما حولت
الاحتفال إلى مجزرة “راح ضحيتها شابين وشابة في مقتبل العمر بالإضافة إلى 41
جريحاً أصيبوا بالرصاص الحي، كما تم اعتقال جميع الجرحى.[87]”
اندلعت شرارة الصدام بعد نقاش بين
مجموعة من العرب وأعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد أن انزعج العرب من رفع صورة
زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان، على المسرح.
تطور النقاش إلى شجار استخدمت فيه قوى
الأمن المتواجدة هناك رشاشات المياه لتفريق الحشود. رد أعضاء حزب الاتحاد
الديمقراطي بقذف الحجارة على عربات قوى الأمن، الأمر الذي استفزها وجعلها تطلق
الرصاص الحي على الجمهور… وعقب أحداث الرقة، تم اعتقال عدد كبير من الأشخاص ورفعت
بحق بعضهم دعاوى إثارة النعرات الطائفية والعرقية. أفرج عن بعضهم بينما بقيت
ملفاتهم مفتوحة لدى المحكمة.[88]
و في سياق منفصل، تم اعتقال عدة أشخاص
في الحسكة بتاريخ 21 آذار (مارس) 2010، وهم في طريقهم للاحتفال بعيد نوروز. ومن
بين المعتقلين قهرمان ابراهيم علي (مواليد 1974) ونعمان سليمان أحمد (مواليد
1971). ومنهم أيضا لازكين حسنو، بنكين حسنو، فيصل خليل، محمد خليل وكانيوار خليل
الذين اتهموا بإثارة النعرات الطائفية والعرقية وحجزوا في سجن القامشلي[89].
1- النساء الكرد والاعتقال السياسي[90]
لقد كانت المرأة الكردية توأم شريكها
الرجل في كل ميادين الحياة والكفاح والنضال. لم تتوانى عن الانخراط في النضال
السياسي منذ اللحظة الأولى وحتى الآن لتخفيف معاناتها ومعاناة أبناء أمتها، بحثاً
عن شروط حياة أكثر كرامةً وحريةً في وطنٍ يحترم حقوقها كامرأة وخصوصيتها كشعب.
وكانت سينم[91] جكرخوين،
ابنة الشاعر الكردي المشهور، هي أول فتاة كردية تعتقل لأسباب سياسية في القامشلي
في عهد الشيشكلي عام 1954. وعن اعتقالها يكتب والدها جكرخوين في مذكراته: “لقد
اعتقلوا فيما بعد[92] زبير[93] وسينم، وتم
تعذيبهم بأمر من أبو علي حيث لاقوا الضرب والتعذيب والفلقة، لقد كانوا يجعلون كل
واحد منهما يشاهد تعذيب الآخر. كانت تلك هي المرة الأولى التي يضعون فيها النساء
والفتيات في الفلقة ويضربوهن على أسفل القدم، وأستطيع أن أجزم بأن ابنتي كانت
الوحيدة، فقد كانوا يعاقبونها بسببي. وكانوا يعتقدون بأنني أطلب دولة كردية باسم
الشيوعية[94]، أو دولة كردية بلشفية، لهذا كانوا
يحاربونني بكل وحشية. ولم يتم الإفراج عنها إلاّ بعد رجاء كثير من قبل حلفائهم”[95].
أما آسيا خليل من ديريك (المالكية)
فقد اعتقلت كثاني فتاة كردية في 13/12/1992، أي بعد سينم جكرخوين بحوالي أربعين سنة،
بسبب نشاطها مع حزب العمال الكردستاني وكانت قد أنهت علاقتها مع الحزب العمال
الكردستاني آنذاك. اُعتلقت في الفترة التي حاول محمد شَنَرْ القيام بمحاول
انشقاقية في الحزب، المحاولة التي لم تنجح وكانت سبباً في تصفيته في القامشلي في
ظروف غامضة في 1992. وكانت التهمة الموجهة إليها ومعها أربعة أشخاص آخرين (رجال)
هي الانتساب إلى جمعية سرية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي،
ومناهضة أهداف الثورة، واقتطاع جزء من الأراضي السورية، مع تهمة حيازة السلاح
للرجال، وقد حُكِمت المجموعة من قبل محكمة أمن الدولة العليا في دمشق بتاريخ
22/10/1995 بأربع سنوات قضتها آسيا في سجن دوما للنساء، والآخرين في سجن صيدنايا.
كما تم اعتقال كل من السيدتين لطيفة
منان وزينب هورو، من عفرين، بعد سبعة عشر عاماً من اعتقال آسيا خليل، بتهمة محاولة
سلخ جزء من الأراضي السورية وضمها لدولة أجنبية في إشارة لانتمائهما لحزب العمال
الكردستاني المحظور، (يسمى في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي).
لقد قضت المحكمة (محكمة أمن الدولة
العليا) في جلستها المنعقدة يوم الثلاثاء 14/4/2009 بالسجن خمس سنوات على كل من
السيدتين لطيفة منان وزينب هورو، وكان معهما مجموعة أخرى من ستة رجال، تراوحت
أحكامهم بين ست وسبع سنوات من السجن[96].
ومن ثم سيتم اعتقال القيادية فصلة
يوسف، نائبة رئيس المجلس الوطني الكردي في 18 أيار 2017، بعد ثماني سنوات من سجن
السيدتين لطيفة منان وزينب هورو، لكن ولأول مرة في تاريخ كرد سوريا، على يد أجهزة
تابعة لـ “سلطة كردية”!
أفرجت قوات الأسايش التابعة للإدارة
الذاتية عن فصلة يوسف نائبة رئيس المجلس الوطني الكردي بعد 22 يوماً من اعتقالها
بعد مشاركتها في احتجاجات ضد اغلاق مكاتب المجلس، واعتقال الإدارة أعضاء الأمانة
العامة للمجلس في 9 أيار/ مايو 2017.
بذلك ستصبح اعتقال فصلة يوسف بداية
لمرحلة جديدة للاعتقال السياسي في الوسط الكردي، وهي مرحلة ما بعد 2011، حيث العنف
المعمّم باسم “الثورة” في كل مكان، وحيث غياب استبداد السلطة المركزية الواحدة
السابقة لصالح استبداد سلطات عديدة تابعة لمجموعات مسلحة مختلفة في طول البلاد
وعرضها، لا تأخذ شرعيتها إلاّ من قوة السلاح بيديها.
لقد وصل الاستبداد الممارس من قبلها
إلى الذروة في سوريا منذ خمسة عقود ونيف. ومع دخول سوريا في هذه الحقبة المظلمة،
دخل الكرد معها في حقبة جديدة تختلف كلياً عمّا سبق من حيث وتيرة الاعتقالات من
جهة، والجهات التي تقوم بهذا الاعتقال من جهة أخرى. حقبة يمكن تسميتها بـ”آكلة
أبنائها”، وفي ظل هذه الحقبة بدأ الجميع يستهدف الكرد اعتقالاً وقتلاً بهدف
إبادتهم وإزالتهم كعرق من التاريخ ومن الجغرافيا، بما فيها غالبية الأطراف التي
رفعت راية “الثورة” على الظلم والاستبداد
لاسترداد الحرية للسوريين وكرامتهم المنتهكة.
ولكن ما لا يمكن تفسيره بأي شكل من
الأشكال، هو أن يصبح الكردي العلماني، ممثلاً بالمجلس الوطني الكردي، في هذا
المشهد، هدفاً لكرديٍّ علماني آخر، ممثلاً بـ”سلطات الإدارة الذاتية”، التي تمتلك
الأجهزة والسلاح، دون إدراك من الأخير بأنه يتحول بذلك إلى أداة عمياء بيد التاريخ
يستهدف نفسه بنفسه بسخاء منقطع النظير، وتحت شعارات وحجج مختلفة لا تستقيم على أي
معيار من المعايير الوطنية أو القومية أو الديمقراطية أو حتى الطبقية و السياسية.
2- خاتمة:
هكذا نرى أنّ الاعتقال السياسي يرتبط
ارتباطاً وثيقاً بطبيعة السلطة السياسية وبأيديولوجيتها، وبقدر ما تحقِّق تلك
السلطة ذاتها على الصعيد الوطني دستورياً، وتعزّزها بثقافة التشارك، والقانون،
والحريات الديمقراطية، والتعددية الحزبية، والانتخابات البرلمانية، والانفتاح
الحقيقي على جميع الأطياف والمكونات والاعتراف بحقوقها، بهذا المقدار يتراجع
الاعتقال السياسي في ظلها، ويتقلص عدد السجون لصالح المؤسسات المدنية التي تبني
المجتمعات وتحميها من التآكل الذاتي، وتتوطد الثقة والعلاقة المتينة بين أبناء
البلد الواحد، العامل الأكثر أهمية في بناء أي بلد حضاري. وعكس ذلك، هو الطريق
الحتمي للانهيار الشامل، وأن ما تشهده سوريا اليوم لهو أكبر برهان على الفشل
الذريع للبعث وجبهته الوطنية التقدمية لعدم تبني الخيار الأول كنمط للسلطة
السياسية.
وسيبقى الموقف الإيجابي من الكرد
وقضيتهم عموماً، وفي سوريا على نحو خاص بمثابة الخطوة الأولى للسير على الطريق
الصحيح الذي يؤسس لكل الخطوات التالية على الصعيد الوطني، وبدون الاعتراف بهذه القضية في برامج وخطط التيارات
السياسية المختلفة، ستبقى كل الجهود ناقصة لبناء بلد يمتلك القدرة على التفاعل
الحضاري، والدينامية المطلوبة للتجديد والتطوير راهناً وفي المستقبل.
قائمة المراجع
- وِل وايريل ديورانت: قصة الحضارة (7) الجزء الثاني، المجلد
الثاني، ترجمة محمد بدران، مطبعة دار الجيل بيروت، لبنان 1953م.
- وِل وايريل ديورانت: قصة الحضارة (10) الجزء الثاني، المجلد
الثالث، ترجمة: محمد بدران، مطبعة دار الجيل بيروت، لبنان 1988م.
- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة ولادة السجن”، ترجمة د. علي
مقلد، مراجعة وتقديم مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي بيروت 1999م.
-
مهدي عامل: مقدمات نظرية لدراسة أثر
الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ط7، دار الفارابي، بيروت، لبنان.
- عامر شماخ: الإخوان المسلمون…من نحن؟ وماذا نريد؟ – القاهرة في
6 من مارس 2011م.
- د. إسماعيل محمد حصاف: تأريخ كردستان سوريا المعاصر، ج1، ج2،
ج3، ط1، أربيل 2017م.
- نورالدين ظاظا: حياتي الكردية أو صرخة الشعب الكردي، ترجمة:
روني محمد دُمِلّي، دار آراس، ط1، أربيل 2001م.
- روهات آلاكوم: خويبون وثورة آگري، مراجعة: شكور مصطفى، ط1،
(رابطة كاوا للثقافة الكردية، 2001م).
- ـ نواف محمد مراد: موقف الحزب الشيوعي السوري من القضية الكردية
في سوريا 1924-1963م، دراسة تاريخية سياسية، الأكاديمية الكردية، أربيل 2013م
ـ أيوب بارزاني: المقاومة الكردية للاحتلال 1914-1958، سويسرا،
2002م
ـ محمد أحمد ملا: صفحات من تاريخ حركة التحرر الوطني الكردي في
سوريا، ج1، ج2.
ــ عبد الحميد درويش: أضواء على الحركة الكردية في سوريا، أيار
2000م.
ــ محمد جمال باروت: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية،
أسئلة واشكاليات التحول من البدْونة إلى العمران الحضاري، المركز العربي للأبحاث
ودراسة والسياسات، ط1، تشرين الثاني/نوفمبر 2013م.
ـــ صلاح بدرالدين: الحركة القومية الكردية في سوريا، رؤية نقدية
من الداخل، ط1، أربيل 2003م.
ـــــــ محمد جزاع: المناضل حمزة نويران (صفحات من الذاكرة) منشورات
مؤسسة مارغريت (د.ت).
ـــــــ جواد ملا: كردستان والكرد وطن مقسم وأمة بلا دولة، تقديم د.
جمال نبز، ط2، منشورات المؤتمر الوطني الكردستاني، لندن 2000م.
ـــــــ علي صالح ميراني: الحركة القومية الكردية في كردستان سوريا،
أربيل 2004م
ـــــــ جكرخوين: سيرة حياتي، دار بافت للطباعة والنشر.
[59] – د. إسماعيل محمد حصاف، تأريخ كردستان…،
ج3 ، ص25.
[60] - المصدر
السابق، ص32.
[61] – د. محمد علي الخالد: الانتفاضة
الكردية 63 والعقاب بمذبحة؟ 29 تشرين الثاني 2014، موقع: Gemya Kurda
[62] – محمد أحمد ملا، صفات من تاريخ
حركة التحرر…، ج2، ص 69.
[63] – المصدر السابق، ص71.
[64] – تأريخ كردستان سوريا…، ج3، ص77.
[65] – صلاح بدرالدين: الحركة القومية
الكردية في سوريا، رؤية نقدية من الداخل، ط1، أربيل 2003، ص74.
[66] – محمد جزاع، المناضل حمزة
نويران (صفحات من الذاكرة) منشورات مؤسسة مارغريت (د.ت)، ص 97.
[67] – عبدالحميد
درويش: أضواء على الحركة الكردية في سوريا، ص103
[68]
– تأريخ كردستان سوريا…، ج3، ص89.
[69] – جواد ملا: كردستان والكرد وطن
مقسم وأمة بلا دولة، تقديم د. جمال نبز، ط2، منشورات المؤتمر الوطني الكردستاني،
لندن 2000، ص 81.
[70] - علي
صالح ميراني، الحركة القومية الكردية في كردستان سوريا، أربيل 2004، ص 238.
[71] – تأريخ كردستان سوريا…، ج3، ص
80.
[72] -Kurdistan, Annual Journal of Kurdish Students Society in
Europe, vol.17, 1974
[73] - د.
آزاد علي: الحزام (العربي) في الجزيرة السورية، أكبر تغيير ديمغرافي في الشرق
الأوسط، مركز رووداو للدراسات، 24 حزيران 2015، ص5.
[74] – د. آزاد علي: الحزام (العربي)
في الجزيرة السورية…، ص7
[75] – المصدر السابق، ص7-8.
[76] - المصدر
السابق، ص8.
[77] - تأريخ
كردستان سوريا…،ج3، ص221.
[78] – المصدر:
نواف رشيد، قيادي في حزب يكيتي الكردي في سوريا، يقيم حالياً في أربيل.
[79] - المصدر:
نواف رشيد، قيادي في حزب يكيتي الكردي في سوريا.
[80]– تقرير جمعية حقوق الإنسان في
سورية 2003
http://www.thefreesyria.org/f-s-1/kadaia-1104.htm
[81] – المصدر: عامر مراد أحد
المعتقلين، وتقرير جمعية حقوق الإنسان في سورية لعام 2003.
[82] – تأريخ كردستان سوريا…، ج3،
ص175
[83] – أشيع في حينه في الوسط الكردي
بأن عدد الذين زاروا الفروع الأمنية بغية التحقيق معهم وصل إلى أكثر من 6000 شخص.
[84]– العقد الضائع، حالة حقوق
الانسان في سوريا خلال السنوات العشر الاولى من حكم بشار الأسد، تقرير منظمة هيومن
رايتس ووتش، تموز 2010، ص26.
[85] - البعض
يقول إن اسمه كان أحمد محمود حسين.
[86] - المرصد
السوري لحقوق الإنسان،23/3/2008:
http://www.fouadzadieke.de/vBulletin/showthread.php?t=16254
[87] – http://rojmaf.ahlamontada.com/t4083-topic
[88] – نيسان (ابريل) 2010، http://www.kurdwatch.org/?aid=516&z=ar
[89] – نيسان (ابريل) 2010، http://www.kurdwatch.org/?aid=516&z=ar
[90] – إن ما أوردته من معلومات عن اعتقال
النسوة الكرد ليس إلاّ أمثلة فحسب، ولا ينتابني أدنى شك بأن هناك الكثيرات ممن
اعتقلن لأسباب سياسية مباشرة أو غير مباشرة، فعلى سبيل المثال أعتقل الكثير من
النسوة في أحداث قرية علي فرو، وغيرها من القرى المذكورة سابقاً، وهناك ممن اعتقلن
لأيام في حملة 1987، لذا أطلب الصفح مسبقاً إن لم أذكر أسماءهن.
[91] – كان عمرها 18 سنة، حسب قول
أختها سعاد (بونيه) جكرخوين.
[92] – بعد اعتقال الشاعر جكرخوين
نفسه.
[93] – ابن اخ الشاعر جكرخوين.
[94] – كان الشاعر في الحزب الشيوعي
السوري آنذاك، واعتقل أكثر من مرة.
[95] – جكرخوين، سيرة حياتي، دار بافت
للطباعة والنشر، ص347.
[96] – اللجنة السورية لحقوق
الإنسان تقرير 2010

ليست هناك تعليقات: