بدل رفو.. وآلام جلجامش.. آلام السيد المسيح.. وآلام زرادشت حاتم خاني - اتحاد كتاب كوردستان

728x90 AdSpace

شائع
الاثنين، 1 ديسمبر 2025

بدل رفو.. وآلام جلجامش.. آلام السيد المسيح.. وآلام زرادشت حاتم خاني


بدل رفو.. وآلام جلجامش.. آلام السيد المسيح.. وآلام زرادشت 
حاتم خاني

 Pênûsa Azad22


ربت على كتفي، التفتُّ خلفي، كانت عيناه تتوهجان خوفًا من المجهول. لفت نظري بنطاله الفضفاض باللون الخاكي العسكري، تنبعث منه رائحة التراب من صحراء العراق. خرج الجانب الأيمن من قميصه الخشن وتدلّى فوق بنطاله ليعكس اضطرابًا يغلي في داخله. صافحني بيده اليمنى، وفي يده الأخرى كانت سدارته العسكرية ملتفّة ثناياها.

 

كان من عادته، عندما نلتقي في حديقة الشهداء في مدينة الموصل، أن يأتي وفي جيبه قصاصات ورق، وقد سطّر فيها بعض الأبيات من أشعاره، يتغنّى بها أمامي وأنا أنصت لسلاسته في نظم القصيدة، وحماسته الكبيرة في الإلقاء، ثم يسألني عن جودتها، فأعطيه رأيي أو انتقادي لبعض الكلمات.

لاحت في أفق ذاكرتي بعض الأبيات من إحدى قصائده:

 

عيناها الماجدولينيتان

سلبتا مني عقلي

وانتزعتا قلبي من صدري

وأصبحت هائمًا في أزقة مدينتي

أجوب دروبها الملتوية

لعلي أجد ذاتي

 

تركت تلك الذكريات وعدت إلى حاضري ورحبت به، ثم سألته وأنا أرى الحيرة بادية على وجهه:

ما بك يا بدل؟

قال: لم أعد أطيق العيش بدون وطن.

تلفّتُّ يمينًا وشمالًا لأتأكد أن لا أحد يسمعنا، ففي هذا الوقت من انتفاضة 1991، وفي مدينة الموصل التي تُحسب على النظام، كانت أي كلمة في السياسة تودي بصاحبها إلى الهلاك. فالنظام جريح بسبب الانتفاضة الشعبية في الشمال والجنوب، والجريح خطر على الجميع. وكنت قد رأيت بعيني كيف يزجّون شباب مدينة الديوانية في مركبات الحمل لكي يقتادوهم إلى الموت، دون محاكمة، ودون تفريق بين من شارك أو لم يشارك في الانتفاضة.

 

قلت له: وأين عساك تجد هذا الوطن؟

قال: سأرتحل، وسأبحث عنه في كل مكان.

 

ذلك اللقاء في مرآب وقوف مركبات النقل العمومي في مدينة الموصل كان آخر لقاء بيني وبين شاعر الاغتراب بدل رفو في تلك المدينة، حيث تركها وفي قلبه وجع، ألم الفراق عن أمه، ووجع الابتعاد عن قلبه الذي سيتركه بين جنبات مدينته، تلك المدينة التي ثكلت بآلام زرادشت في الماضي، وآلام السيد المسيح فيما بعد.

 

ارتحل هو ليبحث عن ما نسميه وطنًا، وبقينا نحن نشهد ما يحل بالعراق من حروب ومآسٍ وحصار اقتصادي، حتى جاء الاحتلال الأمريكي في 2003، لينتزع من بين ضلوعنا نظامًا عاش على جريان دماء العراقيين في ترع هذا البلد وأنهاره.

تمرّ السنون، وبينما نشهد حُقبًا غريبة تمرّ على بلادنا ونكتوي بضياع كرامة الإنسان على يد الأحزاب الحاكمة التي تَمُنّ علينا بكسرة الحرية الموجودة، استقرّ هو في النمسا، في مدينة غراتس، ليتمتع بكرامته، ويعيش في كنف الحرية، ويحصل على خصلة الإنسانية التي كنّا، وما نزال، نفتقدها في أوطاننا، وعاد لينظم القصائد ويعيد قصيدته التي ألقاها عليّ في حديقة الشهداء، ولكن بصيغة جديدة:

عيناك المجدولتان

سلبتا قلبي

وبثّتا الغربة في روحي

بوجودهما أشعر بالغربة

وبدونهما أنا غريب

مرت ثلاثة عقود ونيف حيث التقيته مجددًا في دهوك، في حي بروشكي، في شهر أيلول/سبتمبر من عام 2024، واستقبلني في شقته، أو بالأحرى في شقته/المتحف، حيث بدت وكأنها متحف صغير جمع فيه كل ما وقعت يده عليه من البلاد التي جابها، والتي زارها وارتحل إليها ورحل منها: هدايا، صور، ملصقات، رسوم، لوحات، جداريات، تحف، زجاجيات، دمى، زخارف وصور على الأقمشة، على السجاد، وعلى الأخشاب، كل ما يجب أن تحتويه المتاحف من منحوتات وتذكارات من كل البلدان والمدن التي زارها، بالإضافة إلى الكتب. وقد علقت في ذاكرتي منحوتة جميلة أو تمثال لرأس الشاعر بدل رفو، أعدّها ونحتها صديقه النحات أرشد خلف، وكذلك صورة لـ جيفارا، أوقفتني للحظات وأنا أنظر إليها، وأستذكر كيف كانت سيرته ملهمة للشباب الثوري أيام زمان، عندما كنا نقرأ ونتثقف، ولم نكن ندرك حينها أن الثورات ما هي إلا لعبة من ألعاب الأمم الكبيرة.

تبادلنا أطراف الحديث، واستعدنا بعض الذكريات، واسترقتُ منه بعض الكلام عن أسلوب حياته، وقضاء أوقاته في مدينته غراتس في النمسا، وعن أحواله، وكيف يكتب، وعن رحلاته، والغرائب التي شاهدها أو لمسها في البلدان التي زارها، وعن قصائده. ثم خرجنا إلى شوارع دهوك، نتجول بين أسواقها، ونلتقي ببعض الأصدقاء، ونتكلم عن البعض الآخر، وعندما يتغلغل التعب في أجسامنا نستريح في مقهى طيار الشعبي.

بدا لي أنه لا يشبه الكُتّاب أو الأدباء الحاليين في بلدي. فقد بدا شعبيًا في ارتياده المطاعم والمقاهي الصغيرة، وبسيطًا في ملبسه، متواضعًا في سلوكه، واجتماعيًا في تعامله واختلاطه مع الآخرين. وهذه هي الصفات التي كنا نقرأ عنها في الكتب فقط، عن كتّاب عصر النهضة، وكيف ساهموا في تغيير عقول شعوبهم، حتى بدأت تلك النهضة تمزّق الأوهام والجهل الذي كان متمكنًا من تلك الشعوب، كما هو حال شعبنا نحن الآن في بلداننا.

لم أجده يتصيّد السلوكيات الخاطئة للناس، ويقارن الأوضاع الحالية في أوطاننا مع مثيلاتها في البلد الذي يعيش فيه، كما يفعل معظم الكُرد المهاجرين الذين يزورون الوطن. وجدته كثير الكلام، حلو الحديث، محللًا للمواضيع، يُغنيها بآرائه، ومنتقدًا حالة واحدة مستمرة منذ التسعينات من القرن الماضي، وهي الجمود الذي حلّ بالهيئات والمنظمات والنقابات والاتحادات الاجتماعية، ومن بينها **اتحاد أدباء الكُرد** في دهوك، مما انعكس سلبًا على الثقافة العامة للمواطن، وأدّى إلى تراجع مخيف في فكر وثقافة هذا المواطن، وخلق لديه نوعًا من الاستسلام والانقياد الخاضع لما تمليه عليه الجهات الفاعلة والمؤثرة على المجتمع.

كنت أحب أن يجيبني على سؤالي: تُرى هل وجد ما ذهب للبحث عنه عندما تركني في عام 1991 في مرآب النقل؟

قال لي ردًا على تساؤلاتي:

أشعر بالغربة كلما عدت إلى الوطن، وأشعر بمثلها في بلاد الغربة. لم أجد الوطن، ولكنني وجدت وطنًا. أرتحل إلى كل مكان، وأرتاد كل فضاء، ولكنّي أشعر بأنني أسافر إلى "اللا مكان".

يتألم عندما يتذكر الوطن، ويتألم عندما يكتب عنه، وعندما ينظم الشعر، وحتى عندما يفكر. فقد أصبح الألم عنده ملازمًا لترحاله، يتلبّسه نفس الفكر الذي حمله جلجامش عندما ترك المُلك وهام على وجهه يروم العثور على اللامكان.

أما الإنسان، فقد وجدت فيه عينين حزينتين، وقسمات وجه حائرة، وشرودًا في الذهن، وعيشًا على الهامش عندما لا يستطيع تصنّع السعادة أمامنا. لم أجد لديه إحساسًا بأنه كسب كل الذي ذهب للبحث عنه، بل وجدته كأنّه فقد ما كان يملكه عندما كنا نلتقي في شوارع الموصل وحاراتها، حيث الضحكات والابتسامات العفوية، وأحاسيس الحب التي حملتها قلوبنا اليافعة حينها.

لم تنقذه طفولة الهند، ولا زرقة شفشاون.. ولا حتى كلماتُ شِعره الجميل. فكل ما قيل ويُقال بحقه، لا تلبث أن تجف تلك الكلمات في شرايينه وأوردته سريعًا قبل أن تصل إلى القلب، ويبقى قلبه خاويًا جافًا، إلا من مرارة الغربة التي يكرّرها في أشعاره وقصائده.

يهرب من أشعار الحب ليتجنب الخوض فيها، فيصطدم بأشعار الوطن، لتتعاظم الغربة فوق غربته، فقد سرقوا الوطن منه كما سرقوا قبلها قلب حبيبته، فلم يعد لشعر الوطن أو شعر حبيبته أي لذة أو إحساس، سوى العدم الذي عثر عليه جلجامش... فقد سرقت الأفعى نبتة الشباب التي أراد أن يجتزئ قسمًا منها له بعد غفوته.

دهوك، 9 / 6 / 2025

 

بدل رفو.. وآلام جلجامش.. آلام السيد المسيح.. وآلام زرادشت حاتم خاني Reviewed by Yekîtiya Nivîskarên Kurdistana Sûriya on ديسمبر 01, 2025 Rating: 5 بدل رفو.. وآلام جلجامش.. آلام السيد المسيح.. وآلام زرادشت   حاتم خاني  Pênûsa Azad22 ربت على كتفي، التفتُّ خلفي، كانت عيناه تتوهجان...

ليست هناك تعليقات: