القرينة ودورها في التأويل في الأدب السردي الوجيز
مجموعة القصص القصيرة جدا ( أصغر من رجل بعوضة )
للكاتب السعودي حسن علي البطران أنموذجاً .
الناقد
الأكاديمي محمد كتوب المياحي – العراق
تحتضن وتفرز
ظاهرة التكثيف والاختزال ما يُعرف بالأدب الوجيز, و لا نُريد هنا الخوض في جدلية
التجنيس والصنف والنوع لما ورد موجزاً من الأدب, لكن إجمالاً فيما يخصّ التجنيس؛
فيرى كثيرٌ من المختصين أنّ أي تجربةٍ أدبيةٍ لا يُمكن أن تُفلتُ من دائرة الأنواع
الأدبية.
و لا بدّ من الإشارة - هنا - بأنّ مدار طرحنا هو أنّ الأدب الموجز غير عاجز
عن إيصال الفكرة والرسالة للمتلقي بأصنافه الثلاثة ( العادي, و المُنتج, و الناقد
), إنّما كلّ ما في الأمر الوعاء الذي يحمل الدلالة في هذا الأدب يمتاز بالضيق,
فيما يخص القصة القصيرة جداً , لا غُنى عن اشتراطها بوجود حدث مُيسر و محدودية
الشخصية , فضلاً عن الاختزال والتكثيف.
وحسب ظني المتواضع الإطار التأويلي قيمة لافتة
في استقراء فكرة النص الوجيز, لا سيما القصة القصيرة جداً.
تأسيساً على هذا؛ وردت قراءتي هذه تحت عنوان (
القرنية ودورها في التأويل في الأدب السردي الوجيز, مجموعة القصص القصيرة جداً
للكاتب السعودي حسن علي البطران أنموذجاً ) .
المجموعة صادرة عن دار لوتس للنشر والتوزيع -
مصر العربية – 2022 , ضمت هذه المجموعة عدداً من القصص القصيرة جداً متنوعة
الموضوعات.
تكمن أهمية التأويل في النص الأدبي, لا سيما
السردي الموجز في الإسهام في إنتاج النص وتحليل رسالته الموجّه للقارئ, وسنقف هنا
على دور القرنية في توجيه المتلقي في فهم دلالة النص في هذه المجموعة, ولا بدّ من
التنويه لكثرة العينات اقتصرنا على بعضها,
والتي تنسجم مع هذه الرؤية النقدية.
فلو تأملنا نص ( نظرة في الماضي ), إذ يقول
السارد : ( فُتِح كتابه... سقط مغشياً
عليه.) , نجد أن الكاتب اتكأ على صيغة المبني للمجهول أولاُ, فليس معروفاً من فتح
كتاب الشخصية, وثانياً سقوط الشخصية مغشياً عليها, فنقول: إنّ فك شفرات النص تنجلي
في البحث عن قرينة السياق التي تقودنا إلى التأويل؛ فالعنوان في القصة هو القرينة
,( نظرة في الماضي) ؛ فالكتاب الذي تم فتحه هو البُنية الزمنية (الماضي), ذلك
الماضي المشوه السلبي, أمّا من فتح وكشف أسرار الشخصية بتأريخها الأسود, قد يكون
ضميره , أو أحداث معاصرة , فالشخصية كانت تعوّل على عدم فضح تأريخها المشبوه, وهنا
يبقى التأويل مفتوحاً, وفق المستويين المذكورين .
وفي نص ( قناع ) يقول: ( ارتدى ثوباً ليستر
عورته ؛ أغلق الباب ) , ما ورد في السرد أمراً طبيعياً ومتعارفاً, وهي ممارسة
يومية لكل شخص, لكن أين يتحفز التأويل, يتحفز بوساطة قرينة العنوان (قناع) , فيُكشف
لنا أن فكرة النص قائمة على رسالة مفادها, أن اللبس واللباس - هنا - التقنّع في ارتداء ثوب الصلاح والإنسانية بقصد
الخداع والمراوغة, وإغلاق الباب هنا بواطن الشخصية الملوثة الخداعة, وعليه ورد
العنوان ( قناع) .
أمّا في نص ( ذيل الثعبان) , فيقول ( امتد عطاؤه
سنوات ... غفل برهة , طعنته في ظهره , لم يسقط, بقي متوازناً, لم يُصفق له... لبس البياض وتبعته سريعاً
بالسواد...) , فتُكشف دلالة النص من خلال قرائن ( طعنته في ظهره , و لبس البياض),
حاول الكاتب من خلال توظيف رمز الحيوان ( الثعبان) ؛ لامتيازه بالملمس الناعم , ثم
وظف لازمة من لوازم هذا الحيوان ( الذيل) , والذي يمتاز -أيضا - بالانسيابية وهو
من أهم مفاصل الانقضاض على الفريسة ,عندما تغفل الفريسة عنها, ربما أراد القاص أن
ينوه إلى ظاهرة اجتماعية خطرة, وهي خيانة الزوجة مع كون الزوج رجلاً صالحاً, بدلالة تأويلة بقوله ( امتد عطاؤه
سنوات) , وقد أحسن الكاتب عندما اعتمد سيميائية اللون في عنصر المفارقة التي يعدها
كثير من المختصين بأنها وسيلة إغناء مفعمة في القصة القصيرة جداُ ( لبس البياض )
دلالة تأويلة للموت, و ( تبعته سريعاً بالسواد) السرعة في قيام الزوجة الخائنة
للبس اللون الأسود فرحاً بموت الزوج الوفي.
ومن الموضوعات التي عالجتها هذه المجموعة فن
الخداع والدجل والتظاهر بالأخلاق السامية
من قبل مدعي الاستقامة , والذي جسدته قصة ( طهارة تتلون), إذ يقول: ( أمسكت
يدي ... وضعتها على مكان مُقدَّس, ارتعش جسدي ؛ فتلوثت تلك القداسة), النص يُحيلنا
إلى سرعة السقوط في التجربة؛ لأنّ التجربة خير برهان, لقد سقطت كل القيم أمام
الشهوات فانتهكت القداسة , وهي ( شرف المرأة ), وقد يؤل سقوط من ادعى التدين أو
الخلق مجتمعين, بل يمكن التأويل لكلا الأمرين ( الرجل الصالح وضعفه) و ( المرأة
المعية الصلاح ).
ولا تكاد تخلف البنية في تأويل قصة ( رؤية
سراب), عندما يقول فيها القاص: ( تتمايل السمكة تحت الماء , يعشقها ذكور السمك,
إمام المسجد يريد السباحة في الماء ), توحي البنية الدلالية في النص وفق مبنى
تأويلي أن فكرة النص تطرح سلبية المخادعين والدجالين ممن يتلبس بلباس الدين, وإنّ
أفعالهم المشينة كالسراب لا تغني في الدنيا, ولا تسمن في الآخرة؛ لأنّها عبارة عن
نزوات آنية ذات طابع شيطانيّ , فضلاً عن ذلك طرح القاص ظاهرة سلبية متعلقة بالنساء
من خلال إبداء الزينة والتمايل الذي يغري الرجال ( تتمايل السمكة) و( يعشقها
الذكور ) , وبالنتيجة حتى من يدعي الالتزام كان ضحية من خلال تأويل دلالة العبارة (
إمام المسجد يريد السباحة في الماء ) وهي تأويل لمشاركة هذا الرجل المحسوب على
المؤسسة الدينية لفعلة الشباب ( العشق ) .
إجمالا نقول القرينة هي من لعبت الدور الأبرز في
فك مغاليق النصوص, وقد أجاد القاص ( حسن علي البطران) في هذا التوظيف الفني؛
ساعياً بذلك التوليف بين الإيجاز والقرينة
وطرح التأويل بين يدي القارئ .
ليست هناك تعليقات: