قصة قصيرة-عهود الأصدقاء - اتحاد كتاب كوردستان

728x90 AdSpace

شائع
السبت، 6 يناير 2024

قصة قصيرة-عهود الأصدقاء

 

قصة قصيرة-عهود الأصدقاء 

Pênûsa Azad-Hijmar-16

ليلى بدرخان

جلس على ضفة البحيرة وهو يتأملها بعمق، والحزن بادٍ على ملامح وجهه، هي ليست المرة الأولى التي يقصد فيها هذه البحيرة ليخفف من ثقل همٍ قديمٍ لم يبح به لأحد، منذ أن وصل بلاد المهجر، هوكر الشاب الوسيم، صاحب العيون الكبيرة المملوءة بالحزن، فكثيراً ما يراه من حوله وكأن جبلاً قد أثقل كاهله، يطيل الجلوس أمام تلك البحيرة والصمت سائدٌ حوله، وكأنه يسافر بأفكاره بعيداً إلى بقعةٍ لا يعلمها غيره.

وكعادته جلس على صخرةٍ وبدأ يتأمل مياه البحيرة دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، مرت الساعات وهو لا يدري كم هي؟  ولكنه لاحظ أن هناك شاباً يتجه نحوه دون أن يعرف من هو؟  توقف الشاب على مقربةٍ منه، وقال: مياه البحيرة تذكرني برحلتي حين قصدت بلاد الغربة، فكم كانت قاسيةً معنا ولم ترحمنا لحظةً واحدة!! ألا تتفق معي على ذلك؟

عندما سمع هوكر هذا الكلام اندهش ونظر إلى الشاب فوجده مبتسماً وهو ينتظر إجابةً منه، فقال له: لا أدري ربما نحن من كنا قساةً على بلادنا عندما هجرناها وتركنا خلفنا أحبةً يتألمون لفراقنا وسكت، ولكن الشاب الغريب لم يتوقف عن الكلام على حين أن هوكر لا يحب أن يتدخل أحدٌ في خصوصياته. وماذا عنك؟ هل تركت حبيبةً هناك أم أهلاً أم أصدقاء؟ وهنا تنهد هوكر وقال: آآآآآآآآآآآآآآآهٍ لقد تركتهم كلهم هناك، وهنا قال الشاب الغريب: أنا أدعى بيار، فما اسمك أنت؟ فقال له: اسمي هوكر، فقال بيار: لا أخفي عليك يا هوكر فمنذ فترةٍ وأنا أراك تقصد هذه البحيرة وتجلس ساعات دون أن تتفوه بكلمة واحدة، وتغادر وكأن جبالاً قد أثقلتك بكل ثقلها والفضول هو ما دفعني إلى المجيء إليك لأعرف منك قصتك وسبب حزنك الدائم، فنحن شبابٌ في الغربة يحتاج كل منا إلى شخص ما ليخفف عن نفسه قليلاً أفلا تحدثني عن نفسك وأنا أحدثك عن نفسي، ولكن قبل ذلك ألن تخبرني قصة هذه السلاسل التي بيدك، فكلها متشابهة وفيها أحرف مختلفة؟

تنهّد هوكر للمرة الثانية وقال: قصتي قاسيةٌ محزنةٌ لن تستطيع أن تتحمل سماعها، فهي قد أبكت الكثيرين ولا أريد أن أحملك المزيد من الهموم.

وهنا قال بيار: لا عليك أستطيع أن أتحمل الكثير فالغربة قد علمتني الصبر والتحمل وغير ذلك وعلى عكس ذلك فلربما أعطتني قصتك المزيد من الصبر .

وبعد أن تأكد هوكر من رغبة بيار في معرفة قصته قال: إذاً اسمع ولكن لا تلمني بعد ذلك ،آهٍ يا بيار فكما تراني في العشرينيات من العمر، وكنت كغيري من الشباب أرسم لمستقبلي بعد أن أنهي دراستي الجامعية وأخدم الجيش لأكون أسرةً سعيدةً ولكن الظروف عاكستني كثيراً ولأسباب لم أنهي الدراسة في الجامعة والتحقت كغيري من الشباب بخدمة العلم وأصبحت جندياً أدافع عن تراب وطني وفي نفس الفترة التحق الكثيرون من الشباب من كافة المدن ممن كانوا في عمري بالخدمة الإلزامية وكل واحد منهم كان يحمل معه حكاية تختلف عن الآخر فمنهم من ترك الدراسة ومنهم من أجبر على الالتحاق ومنهم من يعشق الحياة العسكرية ...وهكذا.

ورغم معارضة أهلي وأصدقائي لذهابي بسبب الأوضاع غير المستقرة في منطقتنا إلا إنني التحقت بصفوف الجيش، قمت بتحضير حقيبة سفري ودموع أمي تنهمر بغزارةٍ لأنني سأغادر، والله وحده يعلم متى سأعود إليها مرةً أخرى، عانقتها ووعدتها ألا أتأخر عن زيارتها.

أوصلني والدي إلى شركة النقل البرية لأتابع طريقي إلى إحدى المدن القريبة من العاصمة، كان السفر طويلاً استمر لأكثر من اثنتي عشرة ساعةً، وفي الصباح  وصلتُ إلى القطعة العسكرية التي سأستقر فيها، رأيت وجوهاً كثيرةً وغريبةً،  في اليوم الأول ومع مرور الأيام تعودت عليهم وهكذا كونتُ صداقات مع أكثرهم، كنا نتسامر ليلاً، ونخرج للقتال معاً نهاراً نستمدُ من بعضنا القوة، وكان بين تلك المجموعة شابان الأول يدعى عمر وهو من سكان إحدى المدن الحدودية،  والآخر يدعى سيامند شاب من قرية قريبة من قريتي تعرفت إليهم عن قرب، وأصبحنا أصدقاء أوفياء لبعضنا البعض وتعاهدنا على ألا نفترق حتى بعد إنهاء الخدمة الإلزامية. كنا نتدرّب معاً ونقاتل معاً نساند بعضنا في الشدائد، عمر قد خطب ابنة عمه وينتظر انتهاء الخدمة ليعود ويتزوج، أما سيامند فشابٌ ريفي يحلم بأن يبني مزرعةً ليربي فيها البقر والنحل والخيول وهو أيضاً ينتظر انتهاء الخدمة بفارغ الصبر.

كانت الليالي الطويلة تجمعنا لنسرد لبعضنا حكايا عن رفاقنا وأهلنا، وأحياناً نلعب الدامة لأننا لا نملك غير هذه الحجارة الصغيرة لنرفّه عن أنفسنا، والساعات الطويلة كانت تمر ونحن نتذكر وجوه أهلنا وحبنا واشتياقنا لهم، وهكذا مرت شهورٌ ونحن لا نفترق أبداً، والضابط المسؤول عنا مسرورٌ منا لأننا لا نقصر بواجبنا أبداً، وكان يسمح لنا بين الحين والآخر أن ننزل إلى العاصمة لنرفه عن أنفسنا ولو قليلاً.

في إحدى المرات ذهبنا نحن الثلاثة أنا وعمر وسيامند إلى العاصمة لشراء بعض الحاجيات للضابط المسؤول عنا وكان قد أعطانا إذناً لستِ ساعات كمكافأة لنا عن حسن خدمتنا، لم نصدق ذلك فأسرعنا نركبُ إحدى السيارات متوجهين إلى العاصمة، وبعد ساعة كنا في قلب العاصمة نتجول في السوق ونحن نستمتع بالمناظر الجميلة فالسوق كبير ومكتظ بالناس وفجأةً استوقفني عمر وسألني: هل تتوقع يا هوكر أن نعود بخير لأهلنا بعد انتهاء الحرب أم إننا لن نعود أبداً؟؟

أجبته ولمَ لا؟ فالحرب أوشكت على الانتهاء، وهنا قال سيامند: أتمنى أن نرجع بخير لأهلنا وأحبتنا ولكن هناك شعور يراودني، وبدأت الكوابيس تأتيني ليلاً، عسى ذلك خيراً، وهنا أقترح عمر أن يشتري كل واحدٍ منا سلسالاً فيه حرف اسمه الأول وأن نلبسه طيلة فترة الخدمة الإلزامية ولكن إن حدث وإن مات أحدنا، يجب على الآخر أن يأخذ السلسال، ويلبسه ولا يفارقه أبداً، ومن يبقى أخيراً يحتفظ بها كلها.

في البداية، خاف الأصدقاء من الفكرة بحد ذاتها، لأنها سلفاً جعلتهم يفكرون بالموت، ولكن بعد قليل من الصمت وافقوا جميعاً على ذلك ثم دخلنا إحدى المحلات، واشترينا ثلاثة سلاسل متشابهة تحمل الحرف الأول من أسمائنا، وتعاهدنا بالحفاظ عليها ثم لبسناها ورجعنا إلى قطعتنا العسكرية وأمل العودة يداعب فؤادنا، وهكذا تعاهدنا على الإخلاص لبعضنا البعض.

ولكن الحرب لم تنتهِ، وأصبح الوقت يمر ثقيلاً وطويلاً علينا وأخبار الجبهة لا تسر عدواً ولا صديقاً، وأصبح أمل العودة إلى الديار شبه معدوم.

بعد شهرين من تلك الحادثة وبينما كنا مجتمعين، خرج الضابط  وأخذ معه مجموعة من الجنود في مهمة عاجلة، وكان عمر من بينهم ومرت الساعات وقد تأخروا كثيراً في العودة، كنا قلقين جداً عليهم، وهكذا مر يوم ويومان وفي اليوم الثالث عاد الضابط ومعه قلة قليلة من الجنود، بحثتُ بينهم عن عمر ولكن الضابط أخبرني بأنه استشهد في إحدى الغارات، وقدم روحه رخيصةً في سبيل الوطن، لم نصدّق ما سمعناه في البداية، وبكينا كثيراً أنا وسيامند،  وطلبتُ من الضابط أن أرى جثمانه لأنه قد أوصاني وصيةً وفعلاً سمح لي بأن أراه ورافقني إلى المشفى حيث يرقدُ  جثة هامدة استرجعت ُ حديثه، فخطيبته وأهله ينتظرون عودته ليفرحوا به  ثم صرخت آهٍ  آهٍ يا عمر لماذا تركتنا؟؟ ألم تكن سترجع لتتزوج من ابنة عمك؟؟ كيف سأخبر أهلك عن استشهادك وماذا سأقول لهم؟؟

أمسك الضابط بيدي وقال: هوّن عليك، كثيرون من سيدفعون حياتهم ثمناً لكرامة هذه الأرض وطلب مني الخروج، ولكنني استسمحته للحظةٍ اقتربت من جثته بحثتُ عن السلسال وسحبته من عنقه بلطفٍ وعاهدته أن أحافظ عليه وألا أنساك أبداً، ورجعت لأخبر سيامند عن عمر وكيف استشهد؟؟ بكى سيامند وجلس وهو يرتجف ويقول: ألم أقل لك، أخاف ألا نعود إلى أحبابنا فالله وحده يعلم ماذا سيحدث لنا؟ ثم أجهش بالبكاء.

ومرت الأيام ونحن لم ننس حزننا على عمر ورفاقنا الذين استشهدوا وما نزال نتذكرهم ونبكيهم، حتى جاءنا أمر من الضابط الأعلى رتبةً بأن نجهز أنفسنا لأن هناك جماعة إرهابية ستقوم بتفجير إحدى المباني الحكومية وعليهم أن يقوموا بردعهم، وأخذ معه مجموعةً من الجنود وكان سيامند بينهم، وقبل أن يخرج ودّعني وأوصاني بنفسي وبألا أنسى الوعود التي وعدناها لبعضنا  البعض وسقطت دمعةٌ من عينه وكأنه يودعني الوداع الأخير، نظر خلفه كثيراً حتى غاب عن الأعين، كان الكمين على طرف المدينة، وهدوء الليل يدخل الخوف إلى القلوب، بقينا ننتظر لساعات حتى وصل الخبر الذي غيَّر مجرى حياتي كلياً  وللأبد، لحظةٌ واحدة فقط دمرت كل شيء، وأجبرتني أن أفعل ما فعلته.

دخل الجندي وهو يبكي ويقول: لقد ماتوا جميعاً في الكمين ولم ينجُ أحدٌ منهم، صرختُ سيامند أأخبرك قلبك بذلك قبل أن يحدث؟ ... لقد ودعتني يا صديقي ...

وأسرعت إلى المشفى حيث وضعوا جثامين الشهداء الذين استشهدوا في الكمين ودخلت الغرفة التي وضعوا فيها دون أن استأذن أحداً ،وكانت المفاجأةُ والصدمةُ كبيرةً فقد وجده مقتولاً برصاصةٍ من الخلف، كيف ذلك والعدو كان أمامهم، أسرعت إلى بعض الموجودين هناك لأسألهم عن ذلك وقد أخبروني أن سيامند قتل من قبل أحد الضباط لأنه رفض أن يقتل إنساناً أعزل، هنا فقط أدركتُ إن هناك أمراً مريباً يحدث وبدأت الأفكار تأخذني يميناً وشمالاً، أخذت السلسال وأسرعت بالخروج من المشفى متجهاً إلى قطعتي العسكرية وأنا أفكر كيف يقتل الإنسان إذا رفض أن يقتل إنساناً آخر أعزل لا يملك سلاحاً ليدافع به عن نفسه وهنا أدركتُ أنَّ من نقاتل معهم ليسوا كما تصورناهم، عدت وعاهدتُ نفسي ألا أقاتل معهم أبداً، وفي الأيام التي تلت تلك الحادثة كنت أجلس طويلاً أبحث عن طريقةٍ أخرج فيها من محنتي تلك، وأخيراً حصلت على ما كنت أريده، فالفكرة  هي أن أصاب بطلق ناري لأجلس في المستشفى لبعض الوقت، وهكذا أبحث عن سبيلٍ للهرب من كل ذلك.

وفي اليوم التالي وبينما كنا بمهمةٍ في الخارج نظرت حولي كثيراً ثم أمسكت بندقيتي وقد كنت خائفاً جداً ولكنني كنت مصمماً على  الهروب، قمت بتصويب البندقية نحو ساقي وأطلقت الرصاصة ثم سقطتُ أرضاً وفي لمح البصر كان بعض الجنود قد وصلوا  إلى حيث كنت ممدداً على الأرض وسألوني عما حدث لي فأخبرتهم بأنني أصبتُ بطلقٍ ناري لا أدري من أين جاءني حملني الأصدقاء إلى المشفى العسكري حيث رقدت هناك فترةً ليست بالطويلة وبعدها رجعت إلى قطعتي العسكرية، طلبت من الضابط المسؤول وكان شخصاً مهذباً محبوباً من الجميع بأن يعطيني إجازة مرضية لأزور أهلي واسترجع صحتي.

وافق الضابط دون أي تأخير ولم يعارض وفي يوم السفر ناداني، ونظر إليَّ مطولاً وبعد ذلك قال لي: أعلم جيداً ما فعلته، وما ستفعله بعد ذلك يا هوكر، وقريباً ستسمع أخباراً عني تسرُّ قلبك وخاطرك وربما نلتقي بعد ذلك، لا تدري ما تخفيه لك الأيام، ودعته وخرجتُ مسرعاً وأنا أقول في نفسي: لن أدعكم تروني مرة أخرى ولن أقتل أعزلاً حسب رغبتكم وأسرعت الخطا دون أن أنظر خلفي.

هي أيامٌ وكنت بين أهلي وأحبتي، سألوني كثيراً عن سبب إصابتي، كتمت الأمر في البداية ولكنني أخبرتهم بقصتي كاملةً، وهكذا كانت وجهتي إلى بلاد الغربة، وهنا نزلت دمعةٌ من عيني هوكر وهو يلمس السلاسل الثلاثة وهو يقول: أترى يا بيار هذه هي قصة السلاسل وهي قصة الأصدقاء الذين تعاهدوا ولم يبق منهم غير الشخص الذي تراه أمامك، فكيف لي أن أتحمل ما مررت به؟؟ وكيف لي أن أنسى رفاق دربي (عمر وسيامند)؟؟

قصة قصيرة-عهود الأصدقاء Reviewed by Yekîtiya Nivîskarên Kurdistana Sûriya on يناير 06, 2024 Rating: 5   قصة قصيرة-عهود الأصدقاء  Pênûsa Azad-Hijmar-16 ليلى بدرخان جلس على ضفة البحيرة وهو...

ليست هناك تعليقات: